بقلم: توجان فيصل.. أنتج تقرير الأمم المتحدة الأخير حول الأمية وانتشارها بين النساء في العالم العربي اهتماما واسعاً في العالم العربي والغربي نأمل أن يستمرلما بعد موسم ذلك التقرير، كون محو أمية القراءة والكتابة حقا إنسانيا أساسي كحق الحياة والغذاء والعلاج لا أقل.
وقد شاركت في برنامج حواري قصير علي قناة الجزيرة الدولية حول هذا التقرير وتساءلت مقدمة البرنامج عن إمكانية الإستفادة من التجربة الفلسطينية كون نسبة الأمية لدي المرأة الفلسطينية هي الأدني في العالم العربي (حوالي12.5% فقط).
وحين بررت ذلك بدوري بكون الشعب الفلسطيني ذا دافعية عالية لكونه صاحب قضية استنكر أحد المشاركين وصفي هذا للفلسطينيين وقال انه يعتقد أن الشعب الفلسطيني يائس وانه يتعلم فقط لأن الوظائف المتاحة في فلسطين تحت الإحتلال هي وظائف تتطلب تأهيلا عالياً..
هذا مع أن الحديث كان عن محو الأمية وليس التعليم العالي إضافة إلي ان فرص العمل المتاحة للفلسطينيين تحت الإحتلال غالبيتها من نوع العمالة البسيطة شبه المؤهلة وحتي الطارئة والموسمية. ولأن وقت البرنامج لم يسمح بتصحيح هذه المعلومات ولأنها ليست معلومات تتعلق بأحداث طارئة ومتغيرة بل بيانات إحصائية وتحليل لتلك البيانات تلزم لأي مخطط في الشأن التربوي أو التنموي او غيره مما يتبع محو الأمية والتعليم عموماً..
لكل هذه آثرت التوقف ملياً عند ظاهرة انخفاض نسبة الأمية بين الإناث الفلسطينيات لبيان العوامل التي أدت إلي هذا الإنخفاض ولتسهيل استفادة بقية العالم العربي من أنموذجها .بداية لابد من التذكير بأن مجيء الأردن في المرتبة الثانية بعد فلسطين في انخفاض نسبة أمية الإناث (حوالي 15.5%) له علاقة بكون ما يزيد علي الخمسين بالمئة ممن يصنفون علي أنهم أردنيون الان هم من أصل فلسطيني.
وإذا زدنا علي هذا بقية سكان الضفة الغربية الذين استثنوا مؤخراً من هذا التصنيف (بنزع جنسياتهم عنهم بعد فك الإرتباط أو اختيارهم هم حمل الوثيقة الفلسطينية) فإن النسبة تزيد عن ذلك بكثير.
وهذا يعني اننا حين نتحدث عن الأردنيات فوق سن المدرسة فإننا في الحقيقة نتحدث هنا ايضاً عن مجموعة نساء أغلبيتهن فلسطينيات وبالتالي فإن العوامل التي سنوردها لاحقاً تكون ساهمت لحد كبير في احتلال الأردن للمرتبة الثانية في محو الأمية بين الأقطار العربية إحصائيا .
ونأتي الآن إلي أسباب انخفاض نسبة الأمية بين الفلسطينيات. والسبب الأول هو أن أحد اهم أشكال الدعم والإغاثة المقدمة من الوكالة الدولية لغوث اللاجئين (الأونروا) كان إقامة مدارس للاجئي عام 48 ونازحي عام 67.
وهي مدارس تمتعت بسوية تعليم عالية جداً بحيث نافست مخرجاتها التعليمية أفضل المدارس الخاصة في الاردن، إضافة لتوفيرها فروعاً مهنية شجعت علي إقبال اللاجئين الفقراء علي التعليم بقصد التأهل لحرفة تدر دخلاً في زمن قصير ودونما اية كلفة.
ولكن توفير المدارس وحده لم يكن ليكفي. فمشكلة الأمية لا تعود فقط لعدم توفر المدارس بل لحجم التسرب منها. وغني عن القول ان الظروف المعيشية الصعبة للاجئين والنازحين في مخيماتهم التي بنيت علي عجل كانت تزيد من فرص التسرب بشكل كثيف .
فنتيجة للبطالة التي تتبع التهجير يضطر الأب للتغيب ساعات طويلة في مواقع عمل بعيدة عن تلك المخيمات مما يجعل كامل مسؤولية البيت غير المجهز بأدني حاجات المعيشة تقع علي عاتق الأم.. وهنا يكثر تسرب الفتيات اللواتي يطلب إليهن البقاء في البيت لمساعدة الأم الحاضرة أو للحلول محل الأم الغائبة ايضاً.
وتغيب الأم ليس الإستثناء بل هو القاعدة لأن مجرد مراجعة طبيب المركز مثلاً كان يستلزم الجلوس في الإنتظار لساعات، ومثلة الوقوف في طوابير علي أبواب المعونات الأخري.. وهنا يأتي دور الدافعية العالية لشعب ذي قضية . والذي هو السبب الأهم في محو أمية غالبية الفتية والفتيات الفلسطينيات.
فوكالة الغوث لم تقدم فقط إمكانات التعليم للاجئين بل هي حصرت فرص التوظيف فيها للاجئين أيضاً مما يعني أن المدرسين والإداريين في تلك المدارس كانوا من اللاجئين.. وهولاء لم يكونوا يائسين كما يمكن ان تكون غالبية اللاجئين الذين جري تهجيرهم للمرة الثانية او الثالثة احياناً, بل تحولوا من فورهم لقيادات إجتماعية وثقافية وسياسية , وبذلوا في سبيل تحقيق مهمتهم أكثر بكثير مما يتطلبه واجب المهنة.
ومن خلال معرفتي الشخصية بالعديد من معلمات الوكالة بالذات, أعرف أنهن كن يقمن بزيارات منزلية لم تكن من ضمن مهام عملهن وذلك للتدقيق في أسباب تغيب الطالبات ولإقناع الأمهات بضرورة تعليم الفتاة وكن يجهدن أيضاً في توفير حلول للمعضلات المعيشية التي تضطر الأسرة لسحب الفتاة من المدرسة أو حتي توفير بعض المغريات لتلك الأسر.
وإلي جانب معلمي ومعلمات وإداريي مدارس الوكالة وقف جسم تطوعي من نساء ورجال فلسطينيين ساهموا في تقديم خدمات تعليمية وثقافية عديدة مزجت فيها حاجات المجتمع المعيشية الصرفة بحاجاته التربوية والفكرية بحيث عززت تلك الدافعية وعمقتها في بنية المجتمع المحلي الجديد الناشيء في ظروف إرتجالية أبعد ما تكون عن الإيجابية.
وذات الدافعية نجدها لدي معلمي وزارة التربية والتعليم الأردنية في الضفة الغربية بعد الإحتلال وفي منظمات المجتمع المدني الفلسطيني خاصة النسائية التي ساعدت علي عدم انقطاع الطلبة عن التعليم حتي في أسوأ ظروف الحصار والاجتياح وتقطع وصول المواد التعليمية وحتي رواتب المعلمين. ويندر أن تجد منظمة مجتمع مدني فلسطينية لا تمزج الهم السياسي بكل شأن بدءاً بالتراث إلي حقوق المرأة إلي التشغيل ومكافحة البطالة إلي طرود المعونات المنتظمة او الطارئة!!
تلك الدافعية الفلسطينية التي أدت إلي رفع نسبة المتعلمين ليس فقط في مراتب محو الأمية بل وصولاً إلي الشهادات العلمية العليا أثرت في البيئة الأردنية ايضاً عن طريق خلق تنافسية إيجابية في حقل لم يكن من قبل من اهتمامات المجتمع الأردني البدوي في أغلبه في بدايات قيام المملكة الأردنية الهاشمية.
وأثر النموذج الفلسطيني في انتاج تنافسية تعليمية خارج الأطر الفلسطينية هو ما أكده الإعلامي الأردني (السفير لاحقاً) السيد نصوح المجالي في لقاء لمجموعة من كبار الإعلاميين الأردنيين مع الخبير الإعلامي المعروف دانيال ليرنر عام 1977 حضرته باعتباري المذيعة التي ستجري اللقاء التلفزيوني باللغة الإنجليزية مع السيد ليرنر.
ولبيان ما يمثله السيد ليرنر هنا أورد هنا أنه في العام 1952 أصدر كتاباً بحثياً عن مدي تطور المجتمعات باعتماد معيار انتشار الصحف فيها مما يعني بداهة درجة انتشار القراءة . وفي فصل خصصه لدراسة ميدانية أجراها عن الأردن توصل إلي وجود فروق في شقي المجتمع المشكل للمملكة الأردنية الأردني والفلسطيني مبني علي معيار القراءة كوسيلة معلوماتية إضافة لمعايير أخري تلي وتحدد سمات كل كتله سكانية.
وهذه الفروق جعلته يعتقد باستحالة اندماج الفئتين فعنون فصله ذاك ب دولة بشعبين . وبعد ربع قرن عاد ليدرس الأردن ثانية وحينها التقيناه. وأذكر أنه قال في لقائي التلفزيوني معه أنه فوجيء بحجم الإندماج الذي قاسه بمعياره ذاته (أي توحد الثقافة بتوحد المصادر المعلوماتية) بحيث غلب ان يكون عنوان ما سيكتبه عن الأردن بعد تلك الزيارة هو شعب واحد في دولتين .. في إشارة إلي وقوع الضفة الغربية وسكانها تحت الإحتلال الإسرائيلي بعد حرب عام 67.
هذه الدافعية المتشكلة عند شعب ذي قضية هي التي أبقت التعليم جزءاً من النضال أقرب للفرض العين منه للفرض الكفاية وأنتجت شعباً بأدني نسبة من أمية النساء رغم الإحتلال ورغم الحصار ورغم تراجع خدمات وكالة الغوث. وكما قلنا للجزيرة الدولية فإن الإحتلال ليس القضية الوحيدة التي يمكن ان يجتمع حولها شعوب العالم العربي المثقل بالهموم والتحديات..
دون أن نغفل أن وجود الإحتلال الإسرائيلي في الضفة وقطاع غزة والجولان ومزارع شبعا وفي مستوطنتي الباقورة والغمر اللتين تغطيتا بزعم شرعية مستمدة من تنازلات إتفاقية وادي عربة غير الشرعية بل ووجود إسرائيل في حدود عام 48 حتي لو انسحبت يوماً من كل هذه المناطق يظل بحد ذاته قضية الأمة العربية الأولي التي ينبغي أن تولد لدي الأمة ذات الدافعية التي ظلت تقود النضال ضد المحتل بأشكاله العسكرية والمدنية السلمية التي في مقدمتها التعليم والتثقيف والتوعية.