أسباب إخفاق مشروع التنوير العربي
الكتاب يؤكد أن المرأة لا تقل كفاءة عن الرجل حتى في القضايا الفكرية
لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ .. مفتاح الخروج من حالة التخلف
كيف ننخرط في الحضارة الحديثة دون أن نفقد هويتنا العربية والإسلامية؟
هزيمة ١٩٦٧ طرحت مشاكل النهضة بعد إخفاق الأنظمة في تحقيق تطلعات شعوبها
توالي الهزائم وانتشار الفساد أجهض مشروع التنوير العربي
العقل العربي انتكس مجددا عندما تخلّى عن مضامينه التنويرية
إدراك الانفراج التاريخي بعيد المنال إذا لم تتبدد الأفكار غير الصحيحة
بقلم – جهاد فاضل:
«سؤال الحداثة والتنوير، بين الفكر الغربي والفكر العربي» صناعة نسائية لا رجالية. كتاب كتبته باحثات جزائريات يعملن أساتذة في جامعات الجزائر، وقد انفردن وحدهن بكتابة أبحاثه دون مشاركة ولو باحث أو زميل لهن في الجامعات التي يعملن فيها. ولا ندري سبباً لهذا الجفاء بينهن وبين زملائهن الذكور دفعهن إلى النهوض بكتابة كتاب أبحاثه من اختصاص الرجال في العادة.
ولعل من بين هذه الأسباب المفترضة شعورهن بأن الرجال عجزوا عن الإجابة على هذا السؤال على نحو جامع مانع، كما يُقال، وكذلك عن ترجمة هذه الإجابة في أرض الواقع، فنهضن بما كبا به غيرهن. ولا شك أن ما كتبته الباحثات الجزائريات فتيحة بورحلة وآمال علاوشيش ونادية بونفقة وخديجة زتيلي وجميلة حنيفي ونورة بوحناش يرقى إلى مستوى الكتابات الفكرية الرصينة. وها هي المرأة العربية تؤكد عبر هذا الكتاب وعبر ما لا يُحصى من النشاطات الفكرية الأخرى، أنها ندّ للرجل في رحلة البحث عن الحداثة والتنوير والتقدم، وليست دونه كفاءة واقتدارا.
وقراءة كتاب «سؤال الحداثة والتنوير» خير دليل على ذلك.
سؤال التنوير
وقد أهدته الباحثات «إلى الذين يؤمنون في بلادنا العربية بأن سؤال التنوير بات اليوم ملحّا أكثر من أي وقت مضى، نهدي هذا العمل». والإهداء يشي بالهمة العالية للباحثات وبكونهن لسن مجرد منظرات لا غير، وإنما هن ساعيات نحو التغيير.فإذا انتقلنا إلى مقدمة الكتاب، وجدنا هذا النفس النضالي الذي نشير إليه. فليس خافياً على أحد أن موضوع التنوير من المواضيع التي أسالت الكثير من الحبر في الفكرين العربي والغربي على حد سواء، «ولكن المعروف أن هذه المسألة قد حُسمت أمورها في الغرب ووصلت إلى مقاصدها منذ زمن بعيد، ولكنها في الفكر العربي لا تزال تعاني من التعثر والانسداد التاريخي، ولأن الخطاب النقدي يتطور على الدوام بولوج الخطاب الشائك، فإننا من هذا المنطلق نراهن على مثل هذه المواضيع التي تنفذ إلى الأعماق وإلى الضمير الإنساني، حيث بات الحفر في العقل العربي وفي واقعه المعاصر المرير الذي طال أمده، أكثر من ملحّ وضرورين وذلك في محاولة منا لخلخلة المفاهيم السائدة عنه، وأملاً في المشاركة في الحضارة العالمية بوصفنا شركاء فعليين في صنع القرار لا تابعين فقط. وبرغم الإقرار بأن الواقع العربي اليوم يعيش أسوأ أيامه بسبب خيباته المتكررة على مختلف الأصعدة، إلا أنه بالإمكان التخفيف من غلواء التشاؤم إذا تم ركوب موجة الإطاحة باليقينيات البالية، وتم الاسترشاد بنور العقل».
إنها عبارة شديدة الوضوح في معناها ومغزاها. ندبت هؤلاء الباحثات أنفسهن لمهمة شاقة وصعبة ولكنها نبيلة، تماما كما يندب الرواد والثوار، أنفسهم لمثل هذه المهمات.
عصر الأنوار في فرنسا
الكتاب يقدم مجموعة من المقالات التي تناقش الحداثة والتنوير بين الفكر الغربي والفكر العربي من أجل معاينة سؤال النهضة العربية الذي طرح منذ ما يزيد عن القرنين من الزمن ولا يزال مطروحاً. العقل العربي اليوم تواجهه تحديات كبرى أكثر من أي وقت مضى. فهل يستجيب لها وسؤال التنوير الحائر إلى غاية هذه اللحظة التاريخية؟
القسم الأول من الكتاب وعنوانه «عصر الأنوار في فرنسا: قضاياه وأهدافه»، يعكف على تتبع حركة الأنوار في الفكر الفرنسي خلال القرن الثامن عشر بأهم ما تحمله من أفكار فلسفية، اجتماعية، سياسية، وتحلّل كاتبته الدكتورة فتيحة بورحلة الأستاذة المساعدة في قسم الفلسفة بجامعة الجزائر، كيف ساهمت هذه الأخيرة في تغيير ذهنية الإنسان الغربي ودفعته إلى إحداث تغييرات جذرية في بيئته وصلت حد الثورة على الأوضاع القائمة آنذاك. لقد ظهرت مفاهيم جديدة عن الإنسان والطبيعة والتاريخ والاجتماع والسياسة، واتخذ العقل مقياسا لقبول الموضوعات أو رفضها.وبهذه الكيفية توصل مفكرو عصر الأنوار إلى ترسيخ جملة من الأفكار مثل فكرة القانون (في الطبيعة أو داخل المجتمعات)، والحرية (سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي)، والسيادة، والتقدم المتواصل بفضل الإنجازات العلمية وما يصاحبها من تحسين مستمر لحياة البشر، ومن المساواة في الحقوق.
جدلية التنوير وتطوره في ألمانيا
وفي القسم الثاني من الكتاب، وعنوانه «جدلية التنوير وتطوره في ألمانيا» تكتب الدكتورة ناديا بونفقة، وهي أستاذة محاضرة في قسم الفلسفة بجامعة الجزائر ومتخرجة من الجامعات الألمانية، عن كيفية اعتماد حركة التنوير بشكل أساسي على مقولة العقل الذي يتمثل هدفه العملي النهائي في تحقيق «السعادة الكاملة» للبشرية، إلا أن نموذج العقل في ذاته، مثلما عرفه رجال التنوير أنفسهم، سرعان ما صار يشير إلى تناقض من حيث أنه يدعو ويعمل على إخضاع كل من السلوك الإنساني والطبيعة اللا إنسانية لهدف منفعي كسبي إخضاعاً أدانيا. وبما أن كل مشروع تنويري، ومنه المشروع التنويري الألماني، كان يسعى إلى «دنيوة» التاريخ الديني التقليدي المقدس للمسيحية ولأخلاقها، فقد كان من الطبيعي أن يتبع هذا نقد جذري لكل الأفكار المضادة للعقل، بهذا حل لحل الإيمان بمجتمع طبقي وبنظام عالم خاضع لإرادة إلهية، والإيمان بالقدرة العقلية للإنسان على تأسيس الحقيقة في الدنيا. إلا أن اقتصار رجال التنوير على العقل وحده، في نظر الباحثة جعلهم يصلون إلى حقيقة شيئية جزئية، وبالتالي لم يتمكنوا من تحقيق أسمى هدف للتنوير وهو السعادة، وان حققوا كثيرا من المكاسب.
مدرسة فرنكفورت والتنوير
أما القسم الثالث من الكتاب فيتناول «مدرسة فرنكفورت والتنوير»: من السلب إلى الإيجاب، وقد كتبته الدكتورة جميلة حنيفي الأستاذة المحاضرة في قسم الفلسفة بجامعة الجزائر، وينصب اهتمام الباحثة فيه على توضيح موقف مدرسة فرنكفورت بأجيالها الثلاثة من الحداثة والتنوير.
وهو موقف اتسم بالانتقال من السلب إلى الإيجاب، ومن الجذرية والرفض القاطع للمشروع مع ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوز إلى الاعتراف بمكتسباته واستكمال نواقصه وتقويم إنجازاته مع يورغان هابرماس وأكسيل هونيث. وبالفعل لقد فقد ممثلو الجيل الأول ثقتهم في التنوير بسبب التجربة النازية القائمة التي تبين على إثرها أن مباديء الحرية والإخاء والعدالة والكرامة والتقدم ليست سوى عبارات خاوية، وأن التنوير قد استحال إلى أسطورة مدمرة إن على المستوى التقني أو الاجتماعي أو السياسي. أما الجيل الثاني فقد تجاوز مأزق التشاؤم إلى اقتراح بناء مفاهيمي وعملي يسد الفراغ المعياري الموجود، وذلك في إطار مقاربة فلسفية سوسيولوجية تقوم على مبدأين متكاملين هما التواصل والاعتراف.
الوعي وصدمة الحداثة
في موضوع الوعي وصدمة الحداثة تحاول الباحثة الدكتورة آمال علاوشيش الأستاذة المحاضرة في قسم الفلسفة بجامعة الجزائر، أن تبين أن الفكر العربي قد وقع في صدمة لا يُستهان بها وهو يحاول ولوج وخوض معترك الحداثة، صدمة استغرقت قواه وأنهكتها لأنه انطلق من موقع الانبهار والتبعية والتقليد المشوه. وهي تبعية اتخذت لها عديد الأشكال والصور، فجعلته يعيش وهم الحداثة تحت غطاء التحديث. انه الواقع الذي تجلى بوضوح في شتى المشاريع والطروحات النهضوية التي عبرت جميعها من تناقض وجداني في نفسية العربي لأنها تشربت في عمومها الثقافة الأوروبية وتبنت صيغ حياة المجتمع الغربي.
العقل العربي
ثمة دراسة ملفقة في الكتاب للدكتورة خديجة زتبلين وهي أيضا أستاذة محاضرة في قسم الفلسفة بجامعة الجزائر، عنوانها «إخفاق المشروع التنويري العربي» تناقش فيها السياقات التاريخية والفكرية للنهضة العربية الحديثة، وما أحدثته «صدمة الحداثة» من رجات في العقل العربي، ولا أدل على ذلك تمحور حل الإشكاليات في النصف الأول من القرن التاسع عشر حول إشكالية التقدم: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ وكيف ننخرط في الحضارة الحديثة دون أن نفقد هويتنا «العربية» و»الإسلامية»؟ وغيرها من الأسئلة التي تصب في ذات المضمون، والتي مزقت الإنسان العربي بين أطروحتين: أطروحة «التراث» وأطروحة «المعاصرة» في محاولة لتأكيد الذات والهوية.
فقد اشتغل رواد النهضة الأوائل على هذا السؤال الشائك، ورغم تباين خلفياتهم الفكرية والعقائدية والإيديولوجية، إلا أنهم اجتهدوا مخلصين لاقتراح أفكار وطروحات جديدة تعيد الفرد العربي إلى متون الحضارة الحديثة، وتكفل له في الوقت ذاته المحافظة على الهوية من الانحلال، وبالأخلاص نفسه والحماسة ذاتها اجتهدت المشاريع التنويرية التي جاءت في أعقاب هزيمة ١٩٦٧. فقد حاولت تلك المشاريع أن تواكب الظرف التاريخي فانخراط جلها في سؤال»التراث» ونقد القراءة السلفية له. اقتراح الدكتور محمد عابد الجابري بدائل لهذه القراءة غير الموضوعية، ودعا إلى العودة إلى «التراث» وتصحيح العلاقة معه.
إجهاض مشروع التنوير
وترى الدكتورة خديجة أن توالي الهزائم العربية ،وانتشار ظاهرتي الفساد الديني والسياسي أجهض مشروع التنوير العربي فعاد على أعقابه، وانتكس العقل العربي من جديد عندما تخلى عن مضامينه الحداثية والتنويرية.
يلي ذلك تحليل لظاهرتي الاستبداد السياسي والديني وكيف غاص المجتمع العربي في مأزق من صنعه ، وكيف استفحلت جراء ذلك ظاهرة الأصولية وحاصرت العقل والتفكير الحر، وتنكرت للحق في الاختلاف ، ولماذا تنامت هذه الظاهرة وبسطت نفوذها في العقدين الأخيرين، وما هي مسوغات انتشارها وتقدمها السريع في أوساط الجماهير الشعبية؟
وتصل الباحثة إلى ما تسميه «بالأنسداد التاريخي» جراء هذه الأوضاع، وإلى اعتبار أن الأفق لا يزال مسدودا، وإن إدراك مرحلة «الانفراج التاريخي» لا يزال بعيد المنال إذا لم تتبدد الأفكار العارية عن الصحة.
وإذا لم نستأنف البدء والاستنهاض على أسس صحيحة تتبنى قيم التنوير والحداثة بشكل فعلي.
حالة العجز في المجتمعات العربية
وما تقوله الدكتورة خديجة الزتيلي يقع في محله ومن يعد إلى الفكر العربي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين يجد أن التنويريين العرب استخدموا مصطلحات مختلفة عكست ثراء الفكر التنويري وعمق أزمته الداخلية وسوء أحواله التي كانت تتطلب قلب أوضاعه المتخلفة استخدم هؤلاء التنويريون مصطلحات تعبر عن حالة العجز التي كانت تعانيها المجتمعات العربية. استخدم عبدالله النديم مصطلح «التأخر» واستخدم عبدالرحمن الكواكبي مصطلح «الاستبداد» في حين استخدم محمد عبده مصطلح «الجمود» وذهب علي عبدالرازق إلى توظيف مصطلح «طاعة الأمة» وآخرون غيرهم استخدموا مصطلحات أخرى من مثل «الهوان» و «التخلف»، وجميعها مفردات تعكس حضور أزمة حقيقية في أوصال المجتمع العربي آنذاك، وتعبر بكل وضوح عن ترد كبير للأوضاع.
لا تهمل الباحثة هزيمة ١٩٦٧ التي طرحت مشاكل النهضة بعد إخفاق الأنظمة العربية في تحقيق تطلعات شعوبها والدفاع عن هويتها وإذا كان سؤال النهضة الذي طرحه الرواد الأوائل وحاولوا تقديم إجابات عنه هو :لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن، وكيف السبيل إلى مواكبة الحضارة الحديثة ، فإذن السؤال الذي سيطرح بعد الهزيمة التاريخية هو :لماذا لم تبلغ النهضة العربية أهدافها المرجوة؟ وفي المحصلة: لماذا أجهضت أحلامها وفشل مشروع التنوير العربي؟
كما لا تهمل الاشارة إلى حركة فكرية مهمة انبرت لتحليل ما حدث وتوجيه النقد إلى بعض مشاريع التنوير العربية، ومنذ ذلك الحين أطلق على تلك الحركة اسم «النهضة العربية الثانية» وهذا الاسم أطلقه عليها المفكر المغربي الدكتور عبدالله العروي.
النهضة الثانية
وتصف الدكتورة إليزابيث سوزان كساب ظروف هذه النهضة الثانية بكونها أسوأ من ظروف النهضة الأولى : «فقد طبعتها الخيبات والإهانات والهزائم طوال قرن من الزمن ، وشهدت هامشا أضيق من الحرية بسبب ترنح أنظمة قمع الدولة وظاهرة الاضطهاد الديني المتنامية.
مع النهضة الأولى اكتشف العرب تخلفهم الكبير على جميع الأصعدة، أما مع ظروف النهضة الثانية فقد أدركوا أن حلمهم بالتنوير قد أجهض ، وأن مشروع التنوير العربي قد عاد على أعقابه. وكان هذا الشعور كفيلا بتحطيم النفوس.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي تراود بعض المفكرين والمثقفين العرب مشاريع نهضوية أملا في وجود مخرج للأزمات وبحثا عن غد أفضل للإنسان العربي في ظل الصراعات الإقليمية والعالمية الراهنة.
من هذه المشاريع:
– مشاريع عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون في بلاد المغرب العربي.
– مشاريع الطيب تيزيني وأدونيس وهشام شرابي وبرهان غليون في بلاد الشام.
– مشاريع زكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي وحسن حنفي وعبدالوهاب المسيري في مصر.
أزمة داخل المجتمع العربي
وينطلق القسم الأخير من الكتاب ، وقد كتبته الدكتورة نورة بوحناش الأستاذة المحاضرة في قسم الفلسفة بجامعة قسنطينة بالجزائر وعنوانه «العقل العربي الراهن أمام عائق التحول» من الإقرار بحضور أزمة عميقة داخل المجتمع العربي إن كان على الصعيد الأخلاقي ، السياسي أو الاقتصادي، ورغم الجهود التي بذلت لإصلاحه وتغييره أملا في التحديث ، إلا أن الأزمة ظلت إلى اليوم تراوح مكانها. بل إنها تتعمق أكثر مع بداية الألفية الثالثة في ظل غياب مستمر للديمقراطية في الأنظمة السياسية وعدم تمتع الأفراد بحقوق المواطنة الفعلية فكيف يدرك العقل العربي واقعة اليوم؟