المنتدى

العلاقة مع واشنطن تهزّ الدبلوماسية السودانية

بقلم – د. خالد التيجاني النور:

لم تكن الاستقالة التي تقدّم بها وزير الخارجية إبراهيم غندور من منصبه إلا مجرد رأس جبل الجليد الّذي يكشف عن حجم الأزمة الذي ظلّت تواجه علاقات السودان الخارجيّة، حتّى تحوّلت إلى مأزِق تكاد تغيب فيه مصالح البلد الوطنيّة، في ظلّ سياسة مُتقلّبة وانعدام رؤية وفي ظلّ حالة شدّ وجذب تنازعاً حول إدارة ملفّاتها، فضلاً عن تحوّلات متواترة في مسيرتها حملت الكثير من المظاهر على الانفتاح، لكن واقع الأمر يثبت أنّ مردودها كان أقرب للعلاقات عامة لم تحقّق سوى القليل من المصالح والمنافع، وهو ما يقود لتساؤُلات أكثر عمقاً عن مغزى استقالة الوزير، إلى البحث في استقالة السياسة الخارجية نفسها من دورها في ظلّ هذا الوضع المضطرب.

ولعلّ العامل الأكثر حضوراً في ظلّ هذا التطوّر، ضمن مسائل أخرى، يتعلّق بتطورات قضية العلاقات السودانيّة الأمريكيّة، إذ ليس سراً أنّ هذا الملف كان شاغل الوزير غندور، صحيح أنّ معالجة العلاقة مع واشنطن ظلّت حاضرة باستمرار في أجندة الحكومة السودانيّة، إلا أن الصحيح أيضاً أنّ أهم اختراق أحدثه كانت محادثاته مع المبعوث الرئاسي الأمريكيّ السابق دونالد بووث التي أسفرت عن خريطة الطريق منتصف العام 2016 وخُطّة المسارات الخمسة التي أفضت في خاتمة المضاف إلى قرار إدارة أوباما بالرفع الجزئي المشروط والمؤقت للعقوبات التجارية والحصار الاقتصادي على السودان في مطلع العام الماضي، وموافقة إدارة ترامب على استدامة قرار الإدارة السابقة.

إذاً ما الذي حدث؟، وما هو العامل المستجد، الذي قاد إلى خلط الأوراق، حتى انتهى بأن يكون أكبر نصر تحقق للدبلوماسية في عهد الوزير غندور، هو نفسه الذي أدى إلى خلق أزمة أفضت إلى تقديمه لاستقالته على هذا النحو المفاجئ؟. فتّش عن تداعيات حادثة «سوشي»، إبان الزيارة الرئاسية لروسيا وتصريحات البشير الصاعقة حينها، وما الاستقالة إلا إحدى التوابع لذلك الزلزال، الذي أصاب في مقتل سلسلة الجهود الحكومية على مدار عقدين في مسيرة طويلة معقدة ومضنية وبتنازلات كبيرة لتعبيد طريق التطبيع بين الخرطوم وواشنطن، ولكن ما أن لاحت الفرصة أخيراً بعد إقدام ترامب على نحو غير متوقّع على تبني مسار الارتباط ومواصلة الحوار بين البلدين، حتى عادت الأمور إلى مربع البداية.

ويبدو أن نتائج زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان في نوفمبر الماضي للخرطوم التي كان مقرراً لها أن تضع أجندة الحوار المستقبلي لرفع السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، العقبة الكؤود أمام الرفع الشامل للعقوبات الأمريكية وتبعاتها وإطلاق مسار التطبيع مع الولايات المتحدة، قادت إلى نتائج عكسية تماماً، كانت السبب المباشر في الموقف الحادّ من واشنطن الذي أعلنه البشير في «سوشي» والذي شكّل تحولاً كاملاً في مسار التواصل السوداني الأمريكي.

ليس سراً أن الموقف الحاد الذي أعلنه البشير في روسيا كان تعبيراً عن ردّ فعل مباشر على مردود زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي للخرطوم ومحادثاته مع كبار المسؤولين، والتي استثنت مقابلة الرئيس نفسه نحو ما درج عليه الحال من قبل المبعوثين الغربيين الذين ظلوا يقاطعون التعامل المباشر معه منذ العام 2009 بعد توجيه المحكمة الجنائية الدولية لمذكرتي التوقيف بحقه.

تجاوز موقف البشير مجرد الاحتجاج على السياسات الأمريكية بصورة عامة في المنطقة إلى اتهام الولايات المتحدة صراحة بالتآمر على السودان ليس بخلفية تاريخية فحسب، حيث حمّلها مسؤولية فصل الجنوب، بل كذلك اتّهمها بمواصلة التآمر على تقسيم بقية السودان، وهذا يعني بوضوح شديد نقلة كبرى في تحديد طبيعة علاقة بين البلدين من محطة الارتباط والتشاور للمزيد من التقدم في مسار الخروج من لائحة الدول الراعية للإرهاب، إلى اتهام غليظ يصنف الولايات المتحدة من قبل رئيس الجمهورية باعتبارها دولة عدواً تسعى لتمزيق وحدة السودان، وتهديد مصالحه الوطنية، وهي حالة من شأنها أن تجعل استمرار الحوار بين البلدين غير ذي جدوى على المسار الحالي.

مآخذ الرئيس البشير على مردود زيارة سوليفان للخرطوم ومحادثاته مع كبار مساعديه تأتي من أنه اعتبرها تخطّت كل الخطوط الحمراء، فهي فضلاً عن تأكيد إصرار واشنطن على نهج مواصلة «حصار الرئيس» داخل بلده بتحاشي مقابلته وعدم التعامل معه ومدّ جسور التواصل مع سواه من المسؤولين، كشفت أن سقف التقدّم المحرز على صعيد العلاقات بين البلدين الذي جرى الاحتفاء به على نطاق واسع بعد رفع العقوبات يظل محدوداً، بما يعني رفع الحصار عن الحكومة فحسب وإبقاءه على الرئيس، غير أن ما جعل الرئيس يمضي إلى نهاية الشوط في الموقف من واشنطن، أن رسائل نائب وزير الخارجية الأمريكي في الخرطوم أغلقت الطريق أمام أية تسوية محتملة لقضية الجنائية عبر بوابة الحوار مع واشنطن، ومضت أبعد من ذلك بالطبع بتحفظها على أجندة 2020 وسيناريو بقاء البشير إلى ما وراء ذلك.

أدرك الوزير غندور من أول وهلة أن إعلان «سوشي»، الذي باغت به البشير حتى مساعديه المرافقين، سيقضي على مسار الحوار الجديد مع واشنطن الذي وضع أجندته للتو في الخرطوم مع سوليفان، فقد سارع إلى محاولة احتواء الموقف الصادم في حينه، ثم سعى لمعالجته بتصريحات بهدف تخفيف وقعه، غير أن البشير عاد ليؤكد من جديد في تصريحات قبيل مغادرته روسيا ما أعلنه في لقاء بوتين، ليبدد ظن الذين كانوا يعتقدون أنه تسريب غير مقصود لمحادثات رئاسية وجدت طريقها إلى الإعلام عن غفلة، ثم تبين لهم أن البشير كان يعني تماماً ما قاله، وهو ما تعني تبعاته أن الصفحة الراهنة في التواصل مع واشنطن قد قُلبت بالفعل، بكل توابعها.

كاتب وصحفي سوداني

[email protected]

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X