ثقافة وأدب
يتميز بالخصوصية في التحديث عن البلاد العربية الأخرى

النهضة في ثقافة العراق الحديـث

التحديث في العراق ارتبط بظهور المثقف الذي يخرج على الإجماع القديم

فكرة الإصلاح بالعراق بدت متعثرة قياساً على مصر وبلاد الشام

الألوسي والرصافي والكرملي والزهاوي من أبرز رواد النهضة

الزهاوي الشاعـر الأول الذي دعا إلى النهضة في العراق

الثقافتان التركية والإيرانية أثرتا في التكوين العراقي

الشاعر يتقدم في الذاكرة العراقية على الباحثين والمؤرخين والقصاصين

فترات نهوض العراق تبدأ بالسياسة وترحل إلى فكرة استقرار الثقافة

بقلم – جهاد فاضل:

كتاب فاطمة المحسن «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» عبارة عن قراءة في التحولات الثقافيّة التي شهدها العراق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومحاولة للبحث في مقدّمات ونشوء النهضة قبل وبعد هذا الوقت، وتقف الباحثة وقفة مطوّلة مع روّاد تلك المرحلة وهم: محمود شكري الألوسي وهبة الله الشهرستاني وأنستاس ماري الكرملي ومعروف الرصافي وجميل صديقي الزهاوي ورفائيل بطي ومحمود أحمد السيد.

الفترة الزمنيّة التي تدرسها الدكتورة فاطمة المحسن فترة مهمّة في عمر العراق الثقافي، وقد بقيت كتاباً مفتوحاً يحمل إمكانات مختلفة لمطالعته.

إنها مشروع ظل في حالة تشكّل، فالمدوّنات التي خلفتها تلك الفترة تكوّنت من خبرات وتصوّرات ومقولات أفراد واجتهاداتهم، والنظر فيها لا يعني حكم قيمة، قدر ما هو وجهات نظر تحاول أن تأتي بجديد.

أرشيفات الثقافة العراقية

تقول الباحثة في كتابها، وجدتني بعد سنوات من الخبرة مع أرشيفات ومدونات الثقافة العراقية، أبحث في صورة الفرد عن مجموعة ثقافية، فالنموذج الثقافي يمنحنا فرصة معاينة التفصيل فيما يخفيه الإطار العام للمكان، بما فيه تاريخه الأدبي والفكري المدّون، وما صوّر عنه من تعميمات، وقد يتكرّر الطواف حول النموذج الثقافي ذاته في غير فصل من فصول الكتاب، دون مقاصد سوى توضيح صورة الثقافة ممثلة بأفراد معلومين يقدّمون لنا تضاريس المكان وشخصيته المحدودة. «ليس المهم أن يكون الواحد منهم هو الأفضل والأجدر بالاهتمام، بل بما تتبدّى فيه ملامح المشروع».

وتضيف: حاولت قدر الإمكان أن أجد ما يساعدني على تلمّس الخصوصية العراقية لمفاهيم التحديث العراقي عبر مقاربة مجموعة من الاستخدامات العالمية والعربية لمصطلحات شكلت شيفرات عصر النهضة، وكان من بين الإجراءات التي أفادتني في وضع الكتاب، عقد مقارنات بين الحالة العراقية والنهضة العربية في مصر وبلاد الشام: كيف نظر العراقيون إلى المفاهيم والأفكار في سياق الحالة العربية وضمن تأثيرات الأدبيات والأفكار الغربية، وما وصل منها لا عبر التمثلات العربية فقط، بل تحت تأثيرات الثقافتين التركية والإيرانية المضمرتين في التكوين الثقافي العراقي؟.

العراق والنهضة

في كتاب «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» يبدو التاريخ العراقي حركة متعرّجة في منعطف كبير ليس فيه من القطع إلا هنيهات قليلة لا تُعدّ بعمر الزمن الثقافي، فالعراق المتشظي ولاءات وقوميات ومذاهب وأدياناً، كان فكرة وجدانية وتوقاً وتوقعاً، ولكنه كان أيضاً هوية يعرّف فيها المتأدبون أنفسهم من خلال الآخرين، عرباً كانوا أم مسلمين أم غربيين. وكانت فترات نهوضه المتقطعة والمتقاطعة محاولات تبدأ بالسياسة وترحل إلى فكرة استقرار الثقافة.

ولعلّ تلك الفترات القلقة في تحديث بُنى العراق الاجتماعية، بقيت ترتبط بكيانه السياسي، سواء في عهد الدولة العثمانية أو في زمن الاحتلال البريطاني أو زمن استقلاله. فكان كيانه الإداري ونوع قوانينه ومؤسساته من بين العوامل الفاعلة في تحديد نوع هويته الثقافية. ومن هنا اختلفت تواريخ نهوضه في المدونات التي أرخت لعصر النهضة، فكان على الباحث تتبع دلالات ذلك الاختلاف وفكّ التداخل في تلك التواريخ.

المثقف الفرد

وقد ارتبط التحديث الأدبي والفكري في العراق بظهور المثقف، المثقف الفرد الذي يملك صوته وتمرداته وخروجه على الإجماع القديم. ولم يكن هذا المثقف بعيد عهد بالثقافة التقليدية، سواء كان مسلماً أو من أديان أخرى. فكان بناة الثقافة العراقية على صلة بمنحدراتهم الدينية، لكن التمرّد شكل سمة من سمات المثقف العراقي الحديث، واتخذت تلك التمردات طابعاً متحديا في أغلب أسئلتها. ولعل سقف تلك التمردات تجاوز ما كانت عليه الحال في الثقافة المصرية التي كانت مرجعاً ومؤشراً للنهضة العربية عموماً. وهذا كان موضوعاً بين مواضيع كثيرة حاول الكتاب البحث في مسبباتها ونتائجها.

مدارس الجدل العقلي

النهضة الأدبية والفكرية في العالم العربي والإسلامي عموماً نتاج الإصلاح الديني، وكان لاستعادة فكر المعتزلة الأثر الواضح في الخروج من النقل إلى الاجتهاد في مصر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ومع أن البصرة وبغداد كانتا الموطن الأول لمدارس الجدل العقلي بما فيها مدرسة الاعتزال، إلا أن هذا الإرث كان شبه غائب في أدبيات فترة الإصلاح الإسلامي العراقي، وبدت فكرة الإصلاح نفسها شبه متعثرة قياساً على مصر وبلاد الشام، ولكن الجزم بانغلاق الدرس الديني العراقي هو إهمال للطبيعة المدينية للعوائل التي كانت تملك النفوذ الأدبي والروحي في المدن، وتتيح لها امتيازاتها ملامسة أفكار الإسلام الجديد عبر القراءات والسفر، وقد حاولت فاطمة المحسن عبر هذا الكتاب مقاربة حراك الأفكار وصيغ تشكل الوعي الجديد، في قراءة لتأثيرات المكتشفات العلمية والفلسفات والنظريات الغربية والموجات الأدبية والأجناس الجديدة في الكتابة التي انتشرت في بلاد العرب والتي ساهمت في ظهور مجتهدين عراقيين في ميادين شتى، وولدت وعياً تاريخياً تبدّى فيما كتبه الأدباء وما صاغه المؤرخون من تصوّرات عن تاريخية الوجود المتحقق للعراق الناهض.

الأدب في العراق الناهض

وترسم الباحثة صورة الأدب والثقافة في العراق الناهض على الصورة التالية:

الطبيعة الشعرية للنهضة الأدبية، والتبادل بين بنية القول الشعري وطبيعة التحديث الأدبي، كانا من بين مميزات عصر النهضة العراقي، فالشعر في ذلك الوقت لم يعد قول خيال، في الجانب النسبي منه، على هذا التبست فكرة الإحياء، إحياء التراث، فبدا أكثرهم وكأنهم يبدأون من حيث انتهت تلك الموجة عند العرب، أو هكذا اتضح مشروعهم بعد تجاوز المحاولات الأولى للنهوض. كما قدّمت النهضة العراقية نفسها عبر الأدبيات العربية كمشروع من خلال أصوات الشعراء قبل الناثرين، حيث استكملوا مهمة الشاعر الناثر والمفكر، بل والمهتم بالعلوم الحديثة. ولعلّ هيمنة الشعر بقيت منذ عصر النهضة، تكاد تحجب المحاولات الأخرى لتخطيه، وظل الشاعر يتقدم في الذاكرة العراقية على سواه من الباحثين والمؤرخين والمجتهدين والقصاصين.

الشعر الشعبي

ولكل هذه الأسباب تولي الباحثة الشعر مساحة تتفوّق على ما جاء به الدرس الأدبي من أجناس أخرى بقيت تتحرّك في ظلاله. وقد وقفت عند الشعر الشعبي كي تزيح جانباً من أقنعة مقولة النهضة، ولكي تتلمس من خلاله صيغة التوتر بين سلطتي الفصحى والعامية، في إطلالة عبر أساليب قول المحكية وطرق إعرابها عن يوميات الشارع البغدادي والعراقي عموماً.

القيم الجديدة والعمران

ولكن الثقافة فيما سُمّي العراق الناهض لا تعني الأدب والفكر فقط، بل هي التكوين المديني والقيم الجديدة والعمران. وقد تناولت الباحثة هذا الأمر بشقيه: مفهوم التطور والارتقاء المديني وصراع القيم القديمة للمكوث في الثقافة الحديثة، وكان من أبرز ملامح الصراع في نظام القيم، تلك المعركة التي خاضها المثقفون من أجل حرية المرأة، ولم تطل هذه المعركة العمق الثقافي العراقي الذي أبقى القول الأدبي والفكري حكراً على الرجال، وأقصى المرأة عن الحيز الثقافي، حيث لم يشهد عصر النهضة إسهامة للنساء في أي ميدان أدبي أو فكري، والكتاب يحاول البحث عن الأسباب التي حالت دون تحوّل أفكار النهضة إلى فعل ثقافي حيّ.

الألوسي

يضم كتاب الدكتورة فاطمة المحسن مائة وخمس عشرة صفحة تدور حول شخصيات نهضوية عراقية بارزة تطلق عليهم صفة الروّاد منهم محمود شكري الألوسي ومعروف الرصافي وأنستاس ماري الكرملي وجميل صدقي الزهاوي، فتعرض لسيرتهم وأثرهم في عصرهم.

فمحمود شكري الألوسي (١٨٥٧ /‏ ١٩٢٤) هو علاّمة العراق كما تصفه ديباجات عصره، الانتقالية والتأثير فيها، ولا يمكن الحديث عن الحياة الثقافية في بغداد دون ملاحظة التأثيرات التي تركها الألوسي كرمز من رموز الثقافة البطريركية التي اشتغلت بشروط غير شروطها، وكممثل للتيار الذي يرى في الكتابة قيمة تسمو على اليومي والزمني، فقد ورث تقشف المتصوفة الأوائل ببغداد وزهدهم وحكمتهم، الأمر الذي أكسبه موقعاً متميزاً فمكان سكان بغداد البسطاء يكنّون احترامهم الأكبر وحبّهم له بسبب زهده ونزعته الإصلاحية.

وفي الكتب التي تركها الألوسي نجد المنزع العروبي لديه أكثر وضوحاً من سواه من العلماء والمصلحين. فقد أدرك زمن الهوية التي اتخذت نهاية القرن التاسع عشر منحى عروبياً لمكافحة التتريك، وتبدّى لديه هذا في مجموعة من المدونات يأتي في المقدمة منها كتابه الأكثر شهرة: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب الذي يعلي شأن العرب كجنس يتفوق على البشرية بما حباه الله من مواهب وما خصّه من تنزيل القرآن بلغته. وقد زاده العلم وضاعف من شأنه، ولعل وقوفه بين عصرين يعزز جانب الاضطراب في شخصيته المنطوية. ولكنه بمجموع شخصيته الأدبية حاول الحفاظ على خط التوازن في الثقافة الكلاسيكية التي كانت رياح التغيير تعصف بها، وكان طريقه إلى هذا يمرّ عبر وسيلتين: التمسك بأمجاد الماضي مهملاً وسائل الدرس الحديثة في قراءة التاريخ، والوسيلة الثانية المواظبة على تحديد موقع المثقف في سياق خيارات الفئة الاجتماعية التي ينتمي اليها.

الكرملي

اما الأب أنستاس ماري الكرملي فهو يبرز من بين أهم مؤسسي النهضة الثقافية العراقية ورعاتها. «ولا يستطيع أي دارس تجاهل دوره في إدماج وتنشيط العناصر الفاعلة في التكوينات الأدبية والفكرية الوليدة لعراق مطلع القرن العشرين».

كان الكرملي رسول البعثات التبشيرية التي لم يقيّض لنشاطها في العراق أن يتخذ طابعاً ملحوظاً بين الناس بسبب غلبة عدد المسلمين ولكن مدارسها رفدت الحركة الثقافية بعدد لا يُستهان به من المترجمين والباحثين والمؤرخين والصحفيين. واستطاع الكرملي تفعيل دور النشاط المسيحي على مستوى النشر، سواء عبر المجلات المختصة بالدين التي حرّرها ومنها «زهيرة بغداد» أو المجلات الأدبية العامة وبينها «لغة العرب» ذات الطابع العلماني، واستطاع بحكمته وذكائه وثقافته المتعددة الأوجه، تجاوز الكثير من العقبات التي وُضعت أمام مشاريعه.

ويطيب للكرملي أن يضيف إلى لقبه كلمة البغدادي، وهو يؤكد على أصله العربي ويفاخر به، وفي حفل تأبينه السنوي في فبراير ١٩٤٧ ذكر مصطفى جواد الذي كان من بين كتّاب مجلته والمقربين منه والمواظبين على حضور مجلسه الأسبوعي، أن لديه رسالة من الكرملي تشير إلى أن أصوله العربية تعود إلى اليمن، ولعل الكرملي في هذا القول لا يختلف عن ساطع الحصري في تأكيد عروبته التي تعود إلى اليمن، بل هو لا يختلف عن الكثير من المتأدبين وشيوخ الإسلام من الجيل الأسبق الذين وضعوا لأنفسهم أنساباً تؤكد انحدارهم من الجزيرة العربية، بل تصل بعضهم بقريش.

المنهج العلمي في الكتابة

اضطلع الكرملي بدور الآباء المؤسسين للمنهج العلمي في الكتابة المحلية وتوجيهها صوب المواضيع التي تعتمد المعلومة لا الإنشاء، ومع أن كتاباته لم تكن رائجة بين الجيل الذي اضطلع بتوجيهه، ولا عند العرب الذين عرفوا قدره، بسبب ضعف جاذبية أسلوبه واستغراقه بالتفصيلات المملة، ومحاولته التدقيق بكل شاردة وواردة، غير أنه كان قادراً على صياغة وظائف جديدة للثقافة العراقية تعتمد على مبحث المعرفة ووسائل بلوغها.

وهي معرفة عقلية تتصل بالواقع وحاجاته. وعودة إلى ما كتب من دراسات، ترشدنا إلى هذا الجانب في شخصيته، فهو يكتب عن اليزيدية والكرد ومزارات بغداد وتاريخ العراق، وعن ألفاظ العامة وأغانيهم وفولكلورهم، وعن القبائل العراقية وسكان المدن وأعمالهم، والكثير من المواضيع التي تتعلق بالمكوّنات الاجتماعية والطوائف والفئات الفاعلة والمنزوية في الحياة العراقية.

معروف الرصافي

ولعل سيرة معروف الرصافي الشخصية والأدبية أبرز حكايات الثقافة العراقية التي حملت إلى يومنا بعض أثر من تركته في الحياة الأدبية العراقية، حيث تمتزج صورة الشاعر العابث والمتمرد مع سيرة الداعية الاجتماعي.

وإن حفلت أرشيفات الأدب بنماذج مختلفة من الشعراء، فشاعر مثل الرصافي كان يطمح إلى دور المفكر والمجادل في اللاهوت والتاريخ، في وقت كانت سيرة الصعاليك والمجّان تراود مخيلته، وسيرة الصعلوك لا تستوي مع جدّ النهضة ومثابرة الرصافي على رفدها بالأفكار الجديدة، فهو لم يكن شاعرها الأبرز وحسب، بل كانت كتاباته خلاصة ما تضمنته النهضة من عناصر نجاح وإخفاق.

كان الرصافي مغترباً عن زمانه حتى وهو في قلب الجموع المعجبة به، واغترابه عن محيطه يمكن أن يعزوه المتفكر بسيرته إلى ذلك التعارض بين ما يريده الناس منه وما يريده هو نفسه، وهو الكردي الأب الذي نشأ في بيئة يقوم أساس ثقافتها على مبدأ المفاخرة بالعرب ومؤلفات متأدبي تلك البيئة، وعلى وجه الخصوص مؤلفات أستاذه محمود شكري الألوسي، تكشف لنا عن ذلك الميل، فكانت قصائد الرصافي المفاخرة بالعرب والعروبة، وتلك التي جاءت على عكس هذا، تشير إلى تناشز في النزعات، وتذبذب بين الانتماء والانفعال عن المحيط الذي تشكل فيه أدبه، وفي التواريخ التي كُتبت عنه لاحقاً تتضارب الآراء، حول موقف الرصافي من العرب والعروبة، بيد أن ولاءه لعثمانيته يأتي كما لو أنه الحل الأنسب لصراع الهويات داخله، ذلك الحل الذي أصبح على عهد الدولة العراقية، معرقلاً لفكرة القبول بها وبملكها العربي.

الزهاوي داعية النهضة

أما جميل صدقي الزهاوي فقد اختلف أهل الأدب من عرب وعراقيين حول الكثير من كتاباته، ولكنهم اتفقوا على أمر واحد يخصه وهو كونه الشاعر الأول الذي دعا إلى النهضة في العراق وربط بينها وبين خطابها في العالم العربي، والزهاوي أكبر عمراً من الرصافي وأقدم منه في التصدي لمظاهر التخلف في الحياة الاجتماعية والأدب، فما من ظاهرة عالجها أدباء النهضة في العراق إلا وكان أول من كتب فيها، فهو رائد ومغامر ومصاب بحمى العلم والمعارف الغربية.

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X