يعمل لشهور طويلة بدون إجازة لإنقاذ أكبر عدد ممكن منهم
تخلى عن حياته الهادئة والمريحة وذهب إلى منطقة خطيرة
ترجمة- كريم المالكي:
إيان كروس.. طبيبٌ بريطانيٌّ يبلغ من العمر 64 عاماً، تخلّى عن حياته المريحة في بلاده وضحّى بكل شيء وذهب إلى بنجلاديش فقط لمساعدة لاجئي الروهينجا. ومع استمرار أزمة مسلمي الروهينجا التي صدمت العالم، وجد الدكتور إيان ضالّته بتقديم شيء لهذا الشعب المظلوم لقناعته بأن الإنسانية فوق كل اعتبار. ويقول إيان: كنت أتصفَّح الفيسبوك في إحدى الليالي، عندما ظهر إعلان جذبَ اهتمامي وكانوا يسألون فيه: هل أنت طبيب؟ نحن بحاجة لخدماتك ومساعدتك في بنجلاديش.
لقد كان الإعلان من منظمة أطباء بلا حدود التي يعمل أفرادها على خط المواجهة في أزمة لاجئي الروهينجا. ويضيف إيان: مثل معظم الناس، كنت قد رأيت صورهم في الأخبار، نساء تحملن أطفالهن وتخضن الأهوال والصعاب بالطين، وأطفال يتامى يحملون كل ما يملكونه في سلال. ورغم أنني لم أعمل في مناطق أزمات من قبل، لكنّنِي قررت الذهاب مباشرة إلى هناك.
قضى إيان 25 عاماً من عمره وهو يعمل كطبيب ممارس عام في مدينة ليستر وسط إنجلترا، وعاش حياة هادئة ومريحة وربّى بناته الثلاث، ولكن عندما فقد زوجته عام 2012، شعر بأنه بحاجة إلى التغيير.
توقع الصدمة
ويقول: أردت فعل شيء تكريماً لها، لذلك وقّعت على العمل لصالح منظمة أطباء بلا حدود. وكتبت مازحاً بطلبي، لا أريد أن أموت، لأنني أعرف بأن بعض الأماكن التي تعمل فيها منظمة أطباء بلا حدود يمكن أن تكون خطرة، كجنوب السودان وسوريا.
وكان الدكتور إيان قد عمل في سوازيلاند ودلهي، كما عمل على برامج فيروس نقص المناعة البشرية والسل، وهي بعيدة عن العمل والحياة على خط مواجهة كارثة بشرية. لذلك عندما اشترك للمساعدة في أزمة الروهينجا، كان يعرف أنه سيصاب بالصدمة. لقد كان عليه العمل، لأيام طويلة وشهور دون إجازة، في مناطق طوارئ، حيث يندفع الأطباء معاً لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح.
واقع مفجع
ويقول إيان: رغم الإعداد النفسي بأفضل ما أستطيع، واجهت صدمة عندما وصلت إلى كوتوبالونج في بنجلاديش. لقد حُشر أكثر من 620 ألف لاجئ من الروهينجا في حديقة وطنية تبلغ مساحتها 3000 فدان. وتم استبدال أوكار الفيلة بملاجئ مؤقتة مصنوعة من الأغطية البلاستيكية وعصي الخيزران، وكانت تمتد على طول الطريق.
في اليوم الأول توفي 4 أشخاص في العيادة. وبطبيعة الحال، كطبيب شاهد وفيات من قبل، ولكنه لم ير موت عدة أشخاص في فترة زمنية قصيرة جداً. وكان الأمر محزناً، حيث يتدفق اللاجئون الذين يصلون عبر النهر من ميانمار بلا هوادة.
وكان يوجد في العديد من الأيام ما يربو على 500 شخص ينتظرون على الحدود، بيد أنه في يوم واحد تمكن 20 ألف شخص من عبور المعبر. ويلتقي موظفو المنظمة اللاجئين على الحدود، ويزودونهم بالإمدادات الأساسية، حتى يتمكنوا من بناء منازلهم.
القتل بأي وسيلة
وكانت الإصابات التي يشاهدها الأطباء فظيعة وتقشعر لها الأبدان، حيث إن الكثير من الجروح تكون ناجمة عن طلقات نارية، وهناك من أصيبوا بأعقاب البنادق، أو داسوا على ألغام أرضية، أو سقطوا صرعى أثناء فرارهم من الجنود المهاجمين لقراهم. وكان مروعاً أن يرى إيان ذلك، ولكن مشاهدة مريض يتعافَى كانت تجعل كل شيء يبذله يستحق كل هذا العناء.
ويقول إيان: ما زالت فتاة في الخامسة من عمرها عالقة في ذهني، اقتحم الجنود قريتها، وهربت وهي بين ذراعي والدها، ركض وهو يحضنها بصدره، وذراعاها لفّتا بإحكام حول رقبته. وعندما أطلق جندي النار عليهما من الخلف، أصابت رصاصة ساعدها، واخترقتها محطمة العظام والعضلات، قبل أن تدخل من الخلف إلى عنق والدها، مما أدى إلى مقتله على الفور. سقط على رأسها، لكنها تمكنت بطريقة أو بأخرى من التملص. وفي الوقت الذي وصَلْتُ إليهما، كانت الطفلة في حالة حرجة، ولكنّ الجراحين تمكنوا من دمج عظامها معاً، وزرعوا وتراً لها، بحيث ستكون قادرة على استخدام يدها ثانية. ويضيف إيان: مشاهدة ابتسامتها الصغيرة تعود ببطء كل يوم كان إنجازاً هائلاً.
جنود ميانمار ينشرون الرعب
ولكون إيان أباً محباً، فإن أحد أصعب الأمور بالنسبة له رؤية الحالة المريرة لبعض الأطفال في المخيم. إن العديد من اللاجئين لم يحصلوا إلا على فرص محدودة للغاية في الرعاية الصحية خلال عقد من الزمن، لذلك يشاهد العديد من الأطفال يعانون من ظروف كان يمكن علاجها بسهولة عند الولادة. ويقول: من الصعب ألا تشعر بالضيق عندما ترى فتاة صغيرة ستعيش حياتها عمياء بسبب إعتام عدسة العين الذي كان يمكن تصحيحه.
ويضيف: عالجت مؤخراً صبياً أحنف القدم، لا ترى مثله في بريطانيا لبساطة علاج حالته، كان عمره 12 عاماً، لم يتمكن من الهرب عندما اقتحم الجنود قريته، وبدلاً من إطلاق النار عليه صوّب جندي طلقاته على قدمه، إنه أمر مفهوم لماذا يفعلون ذلك، إنهم يريدون نشر الرعب والرسالة بأن الروهينجا غير مرحب بهم في ميانمار.
الحب هو الدواء
ويقول إيان: الكثير مما نراه في المخيم مدمر، ولكن هناك أيضاً لحظات من الفرح. لقد شاهدت مؤخراً فتاة صغيرة، كانت تعاني من تشنجات الكزاز المؤلمة لأسابيع، وترتاح كلما وضعتها بين ذراعي والدها. وشاهدتها تتمسك به فيما تتدفق الدموع من وجهه، وقد جعلني الموقف أنفجر باكياً. إن الحب قد لا يكون دواءً، ولكنه قوي المفعول مثل أي دواء.
هناك 43 طبيباً من منظمة أطباء بلا حدود يعملون في المخيم كأصدقاء، والجميع يركز على هدف واحد هو جعل الناس أفضل، فمثلا طعّموا 300 ألف طفل ضد الحصبة في 12 يوماً، ما يدل على روح العمل كفريق واحد.
انتظار المهمة القادمة
وهناك أيضاً موظفون من منظمة أطباء بلا حدود يقومون بحفر الآبار، وكل يوم يغطيهم الوحل ولكن الابتسامات تعلو وجوههم لأن إمكانية حصول الناس على المياه النظيفة أمر ضروري، خصوصاً وأنه تم تسميم بعض الإمدادات بالزرنيخ.
وعاد الدكتور إيان في إجازة إلى الوطن، لكنه لم يكن مرتاحاً كثيراً لحياته السابقة، وأصبح لا يفكر بالعمل كطبيب ممارس بدوام كامل، وإنما يفكر بشعب الروهينجا والناس الذين أنقذهم والذين لم يتمكن من إنقاذهم، ويحلم حتى بوجوههم في بعض الأحيان.
ويختم إيان حديثه: حقيقة كوني في موقف يمكنني مساعدتهم أمر رائع بالنسبة لي، وشعاري أصبَح «امتلاكي سماعة الطبيب، يُحتم عليّ السفر». والآن، فقط بانتظار الهاتف ليدق حتى أنطلق في مهمتي المقبلة.
عن صحيفة ميرور البريطانية