المنتدى

هذا النظام الاقتصادي الاجتماعي الجائر

بقلم – د. علي محمد فخرو

لنمعن النظر في مقولات وممارسات النظام الاقتصادي الرأسمالي العولمي، الذي تقوده وتهيمن عليه الإيديولوجية النيولبرالية المتوحُشة، لنعرف ملامح المستقبل الذي تتجه نحوه البشرية، وبالتالي يتجه نحوه الوطن العربي التابع المغلوب على أمره.

أولاً، أن الكينونة الفردية، برغباتها وطموحاتها وحريتها المطلقة في الاختيار واستقلاليتها عن نفوذ ومطالب وقواعد المؤسسات المجتمعية، هي التي تشكل المجتمع. في قلب تلك الفردية ضرورة التنافس الأناني في الأسواق والنجاح في تلك المنافسة، وإلا فإن ذلك الفرد يعتبر إنساناً فاشلاً ويستحق ما يقود إليه ذلك الفشل من فقر وقيمة اجتماعية متدنية وعدم الفاعلية في حياة المجتمع.

من هنا فإن الظروف والمشاكل الاجتماعية ليس سببها المجتمع، وإنما سببها أخطاء الأفراد أو كسلهم أو عدم قدرتهم على المنافسة في بحر الأسواق الهائج.

وبالطبع فإن حصيلة ذلك الجهد الفردي هو تصاعد في الملكية الفردية، دون سقف ولا حدود، والتي يجب أن تكون مصانة بكل أنواع القوانين والأنظمة وحماية الدولة.

وباختصار، يكفي أن يحصل الفرد على الحرية، وأن يستعمل العقل في تصرفاته، حتى يحقق الملكية الفردية المطلوبة. أما تأثيرات وتعقيدات المجتمعات فهي أمور يجب أن تبقى هامشية في هذا الفكر النيولبرالي الغريب.

ثانياً، السوق الحرة التنافسية هي قيمة عليا يجب ألا تمس ولا تفرض الدولة عليها قيوداً، حتى ولو أدت حريتها التنافسية إلى دمار اجتماعي أو أذى بشري. ففي النهاية ستنتج تلك السوق ثروة تنزل قطرة قطرة من جيوب الأغنياء إلى جيوب الفقراء لتحل مشاكلهم الحياتية.

ومن أجل أن لا يمس ذلك السوق الحر المقدس ويفقد حيويته في خلق الثروة المتعاظمة، حتى ولو كانت في يد أعداد صغيرة من البشر، فإن النيولبرالية تضع قيوداً صارمة على حرية الدولة في حكمها للمجتمع. فنشاطات ومشاريع الدولة الاقتصادية يجب استبدالها بالسوق الحرة، وذلك من خلال برنامج الخصخصة لكل ما تقوم به الدولة من مشاريع تنموية صناعية وخدمية، ومن معونات اجتماعية للضغفاء والمهمشين، وذلك من منطلق من أن القطاع الخاص هو أكفأ بكثير من القطاع العام في إدارة أي شيء.

وإذا كان لابد من تدخُل الدولة فيجب أن يكون في الحدود الدنيا وينصب أساساً على تصحيح ما يمكن أن يؤثر على حيويته ونشاط الأسواق من مثل السيطرة على الأجور، ومن مثل تقليل كل أنواع الدعم الحكومي، ومن مثل تخفيض الضرائب على الأغنياء والشركات.

الاقتصاد يجب تحريره من كل القيود، والملكية الفردية يجب أن تصان، حتى ولو وصل الحال إلى ما وصفته مؤسسة أكسفام الخيرية من أن ثروة (وليس دخل) ثمانية أشخاص في هذا العالم تساوي ما يملكه نصف سكان العالم الفقراء من ثروة.

ومن هنا فليس بمستغرب أن تتفاخر بعض المؤسسات العولمية، من مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بنجاحاتهم المبهرة في تقليل أعداد الفقر المدقع في هذا العالم عندما ينجحون في زيادة دخل ملايين الفقراء من واحد ونصف الدولار في اليوم إلى واحد وتسعة أعشار الدولار في اليوم.

إنه تفاخر بوصول دخل أفراد أولئك الملايين من الفقراء المعدمين إلى حوالي سبعمائة دولار في العام.

فهل حقاً أن النيولبرالية ستقضي على الفقر في هذا العالم، إذا كانت تحمل ذلك المنظور المتواضع في مسألة التوزيع العادل للثروة في مجتمعات العالم؟

والغريب العجيب أن بعضاً من مسؤولي تلك المؤسستين يطالبون مؤسسات القطاع الخاص والشركات العالمية على الأخص بالمساهمة في استثمار أموالهم في دول العالم الثالث، وذلك من أجل حل مشاكل الفقر في تلك الدول. لكن مرض العقلية النيولبرالية يفصح عن نفسه في الحال عندما يؤكدون لذلك القطاع الخاص بأن ما سيستثمرونه من أموال لن يكون قط في خطر. فإذا ربحوا في المشاريع التي سيقومون بتنفيذها فإن الأرباح ستذهب لهم، أما إذا خسروا فإن على دولة ذلك البلد الفقير أن تعوضهم عن خسارتهم باستعمال المال العام، الذي جمع بواسطة الضرائب. وبالطبع فإذا استعمل المال العام لإخراج القطاع الخاص الخارجي من أزماته فإن ذلك سيعني مزيداً من تخفيض الخدمات العامة الاجتماعية للفقراء في ذلك البلد.

إنها اللعبة القديمة إياها. الأغنياء يزدادون غنى في أيام اليسر وأيام العسر. أما الفقراء فيحصلون على القليل في أيام اليسر ويدفعون الثمن من قوتهم في أيام العسر.

باختصار، هل يحق لهكذا نظام جائر مجنون لهكذا بأن يسمح له بأن يمسك رقبة هذا العالم ويتمكن من كل عوامل الإنسانية فيه، وذلك باسم الفردية المجنونة، وباسم حرية الأسواق التنافسية، وباسم تقييد يد الدولة في تحمل مسؤولياتها الاجتماعية والإنسانية؟

الجواب واضح: آن الأوان لإنهاء هذا النظام الجائر أو تعديله بصورة جذرية. هذا المستوى من التوحّش الرأسمالي والفكر السياسي الأناني ما عاد مقبولاً.

لقد تربّع هذا النظام على عرش هذا العالم الاقتصادي والاجتماعي بصورة مجنونة عبر العقود الأربعة الماضية وأثبت أنه سيقود هذا العالم إلى الأزمات التي لن تتوقف. إن نظاماً يفاخر بأن تكون أحد إنجازاته وصول بليون من البشر إلى دخل سنوي لا يزيد على سبعمائة دولار، في حين يملك ثمانية أشخاص ثروة تساوي ثروة نصف سكان هذا العالم من الفقراء والمهمشين، لا يحقّ له أن يبقى.

إن كتب وتخريفات منظّري هذا النظام من أمثال مدرسة شيكاغو والعرّاب ملتون فريدمان يجب أن توضع في زبالة التاريخ.

كاتب ومفكر بحريني

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X