مسيرة النقـــد الأدبـــي
هناك متحمسون لمدارس النقد الأجنبي ويسكتون عن إسهامات المدرسة العربية
عندما ينحاز الناقد إلى ذوقه الخاص قد يصدر أحكاماً مضللة
«التنقيح» مدرسة مميزة في تاريخ الشعرية العربية وهي بداية مبكرة للنقد
كثير من كتابات نقد الحداثة تتعالى على القارئ
غياب أحكام القيمة له مخاطره وأولها مساواة النص الجيد بالرديء
الحياد ألا ينغلق الباحث على القديم ويرفض كل جديد
النقد لم يكن منعزلاً عن بقية المعارف الإنسانية
النقد في الثقافة العربية اعتمد على العلاقة بين العلوم الإنسانية والاجتماعية
بقلم: جهاد فاضل
في هذا الكتاب «المسيرة البينية للنقد الأدبي»، أحدث ما صدر عن النقد في مصر، يفتح الباحث الأكاديمي المصري الدكتور محمد عبدالمطلب الذاكرة على التاريخ الطويل لهذا العلم في الثقافة الإنسانية عامة، والثقافة العربية خاصة، ويحاول فيه أن يكون محايداً أمام المادة الهائلة التي لهذا العلم في الثقافة الإنسانية، وأن يوجز القول لأن الإشارة كثيراً ما تغني عن العبارة.
وصعوبة الإيجاز توازيها صعوبة الحياد، والحياد هنا يعني ألا ينغلق الباحث على قديمه ويرى فيه كل الخير، وألا يرفض كل جديد بدعوى أن فيه كل الشر، وتأتي صعوبة الحياد أيضاً من احتياج الباحث إلى حركة بحثية ترددية تمدّ بصرها إلى المنجز الحداثي الخارجي وترتد منه إلى الموروث العربي لتجمع بينهما جمع توفيق لا جمع تلفيق، وجمع تسامح لا جمع تعصّب، وجمع تحاور لا جمع تخاصم.
يقول الباحث إنّ محاولة الجمع على هذا النحو وضعت يديه على بعض ملاحظات يضعها بين يدي القارئ، أولها أن جمهرة الباحثين في النقد الأدبي الحديث يتحدثون دائماً عن الحداثة النقدية، ولم يشغلهم بعد الحديث عن الحداثة النقدية العربية، وبينما يردّدون إسهامات مدارس النقد الأدبي، الروسية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية والأمريكية، سكتوا تماماً عن إسهامات المدرسة العربية.
نقاد الحداثة
ويضيف: المؤسف أن الجيل الثاني من نقاد الحداثة وقفوا عند جهود الجيل الأول في نقل المعرفة النقدية، وأهملوا المرحلة الثانية التي انتقل فيها هذا الجيل من نقل المعرفة إلى إنتاجها، فإذا تقّدم واحد من الجيل الثاني لمقام الحديث في النقد، استفتح كلامه بقوله: قال باختين، أو بارت، أو تودوروف، أو ما شئت من أعلام نقد الحداثة وما بعدها، «ولا أدري متى يتقدم هذا الجيل إلى مرحلة إنتاج المعرفة فيقول: قال عز الدين إسماعيل، أو جابر عصفور، أو صلاح فضل، أو عبدالسلام المسدّي، أو حمادي صمّود، أو عبدالله الغذامي، أو يمنى العيد، أو سعد مصلوح، أو محمد بنيس، أو محمد برادة، أو عبدالملك مرتاض، أو إدوار الخراط، أو محمد مفتاح، أو كمال أبوديب أو يوسف نوفل أو ما شئت من جيل المؤسسين».
التعالي على القارئ
الملاحظة الثانية أن كثيراً من كتابات وإجراءات نقد الحداثة كانت تتعالى على القارئ وكأن الناقد يكتب لنفسه، لينضمّ بهذا المسلك المتعالي إلى ما يسّمى النخبة أو الصفوة، وكأن النزول إلى القارئ العادي نوع من الصغار الذي يجب ألا يقاربه الناقد.
ومن الملاحظات الأخرى للباحث، أننا ما زلنا نعيش مرحلة اضطراب المصطلح وتعدد مفهوماته، ومن ثم فإن المتابعة التطبيقية تأتي حسب وعي الناقد بالمصطلح الذي يوظفه، وقد يكون هذا الوعي مغايراً للحقيقة، أو مغايراً لوعي غيره به، ومن ثم يأتي الاضطراب.
ثم إنّ كثيراً من الدراسات النقدية الحداثية تهتم بالتنظير على حساب التطبيق، والتنظير ميسور مع حضور المصادر والمراجع التي تمّد الدارس بمادته النظرية، أما التطبيق فهو جهد الدارس الخالص له.
ولا ينسى الإشارة إلى أن مقارنة الجهد النظري بالإجراء التطبيقي تعطي نتيجة مؤسفة، حيث ينجح الدارس في تقديم المنجز النظري الحداثي بمجموعة إجراءاته وأدواته، فإذا تحوّل الدارس للتطبيق حدث تداخل في توظيف الأدوات التحليلية، وتداخل في مجموعة المعايير النقدية، والتبس الجمال بالقبح، والصافي بالمشوب، والمألوف بغير المألوف.
الحداثة الصحيحة
ولا يقف الباحث موقف الرافضين للحداثة النقدية، ولكنه يقف موقف الساعين إلى الحداثة الصحيحة التي تعرف قيمة ما بين يديها، وتقّر بشروط الصلاحية، وتعرف قيمة المنجز الوافد دون أن تقع تحت سطوته، وتخضعه أيضاً لشروط الصلاحية و«اختيار الرجل قطعة من عقله» كما يقول الجاحظ.
ويمتلئ الكتاب الصادر حديثاً في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بفصول شتى عن موضوعات ومناهج وطرائق النقد الأدبي، وبخاصة الحديث منه كالمصطلح، والأسلوبية، والبنيوية، والسيميولوجية، والتفكيكية، وعلم لغة النص، والتداولية وأفعال الكلام، ونظرية التلقي، والنقد الثقافي، ومنهجية القراءة الثقافية، والنسق والسياق، والحجاج والحوارية، والنقد النسوي، والإحيائية، والوجدانية الرومانطيقية، والواقعية، ومسيرة الحداثة وما بعدها، والحداثة وما بعد الحداثة وبعد ما بعد الحداثة، واللغويات والنقد الأدبي، ومناهج الحداثة والتراث العربي، فهو لهذه الجهة كتاب جامع لمبادئ وأوليات النقد الأدبي، ويصلح بصورة خاصة ككتاب تدريس في كليات الآداب، ولا غنى عنه للدارس والباحث والناقد، وبخاصة للمريد الساعي لاستكمال عدّة الأدب والنقد.
قراءة النص الأدبي
ويلاحظ أن النقد الأدبي في صورته الأولية يقوم أساساً على قراءة النص الأدبي وتحديد خواصه والكشف عما فيه من جوانب الجودة أو عدمها، وهذا الكشف يقترن أحياناً ببعض التحليلات والتأويلات والشروح والملاحظات اللغوية والبيانية، وكل ذلك يمثل البعد الموضوعي في النقد، شرط أن يتجنب الطبيعة الشخصية، والذوق الخاص للناقد، على معنى أن يأخذ هذا الناقد موقفاً محايداً بينه وبين العمل الذي ينقده.
ولكن الملاحظ ندرة هذا الموقف المحايد، إذ الغالب أن ينحاز الناقد إلى ذوقه الخاص، فيعرّض ممارسته النقدية لمخاطر كثيرة قد تؤدي إلى إصدار أحكام غير دقيقة، بل قد تكون أحكاماً مضلّلة، ومن ثم فإن مجرد إصدار أحكام القيمة المرتبطة بالانطباع الشخصي غير المعلل لا يمكن اعتبارها من النقد الصحيح.
بل إن هذه الممارسة تحصر كلمة «النقد» في معناها اللغوي الضيق الذي يشير إلى تمييز الدراهم لمعرفة زائفها من صحيحها.
أقدم صور النقد
وربما كان أقدم صور النقد ما نلاحظه من نقد الأديب لما يبدعه من شعر أو نثر، حيث يراجع بعض الأدباء ما أنتجوه، وينظرون فيه مرة بعد مرة، فيصلحون بيتاً، أو يعدلون قافية، أو يستبدلون كلمة بأخرى، وهو ما طرحه التراث العربي تحت مصطلح «التنقيح» الذي كانت له مدرسة مميزة في تاريخ الشعرية العربية هي مدرسة «الحوليات» التي تزعمها زهير بن أبي سلمى.
ولا شك أن ظاهرة التنقيح بوصفها البدايات المبكرة للنقد، قد اعتمدت على كثير من المران والدربة والخبرة بوسائل التعبير وطرائق الصياغة التي تهيئ لصاحبها ذوقه الخاص القادر على تحسّس ظواهر الحسن والقبح في النص الأدبي.أمر آخر يلفت الباحث النظر إليه هو أن النقد لم يكن منعزلاً عن بقية المعارف الإنسانية، بل إنه منذ بداياته المبكرة في الثقافة العربية اعتمد على ما يطلق عليه الحداثيون في أواخر منجزاتهم، العلاقة (البينية) التي تربط بين مجموعة العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة، فقد ارتبط في القديم بالفلسفة، ولعل هذا يفسر أن الذين ترجموا النقد اليوناني إلى العربية هم الفلاسفة العربية. ومع الفلسفة ارتبط النقد بالعلوم اللغوية بوصف اللغة هي المادة الأولية للأدب، وهي أداة الاتصال بين الأديب ومتلقيه، ولكن لكي تعلو اللغة إلى مستوى الأدبية، فإنها تلتحم بالبلاغة بوصفها الممارسة الوصفية لتقنيات النصوص الأدبية على وجه العموم.
وبما أن الأدب والأدبية يعتمدان التراكم لا الانقطاع، فإن التاريخ يجد له مكانة في الدرس النقدي، وبخاصة «تاريخ الأدب»، فلا جديد لمن لا قديم له، كما يقول ابن قتيبة، دون أن يكون هذا القديم شرطاً للجديد.
المنهج التاريخي
أما المفاهيم التي تناولت مصطلح «النقد» فهي عديدة، خاصة أن هذه الكلمة تكاد تكون حاضرة في مجالات الإبداع عموماً، بل تكاد تكون حاضرة في مجالات الثقافة المختلفة منذ أن وعي الإنسان مفهوم الثقافة بكل أنشطتها الذهنية والسمعية والبصرية واليدوية حتى يومنا هذا، ومن ثم فإن المنهج التاريخي يفرض نفسه بوصف التاريخ «ذاكرة الإنسان» التي تختزن مراحل التحول والتطور، ومراحل التقدم والتراجع، ومن محتويات هذه الذاكرة «النقد» عموماً، و«النقد الأدبي» على وجه الخصوص.
لقد كانت البدايات المبكرة للنقد رابطة له بالحكم على الأدب من ناحية، وعلى الأديب من ناحية أخرى، ثم لحق بهذه البدايات إضافة لها أهميتها، حيث أصبحت من مهام النقد عملية الشرح والتفسير، ثم ارتفعت هذه الإضافة لتّضم الوصف والتحليل، ثم ضمت الإضافة «التأويل» ليكون ناتج ذلك كله إصدار أحكام القيمة اعتماداً على المادة الأدبية ذاتها، واعتماداً على الذوق الخاص للناقد، مع الإفادة من الهوامش المصاحبة للأدب مثل: السير والتراجم، ومجموع النظريات الأدبية، وطبيعة الموضوع الأدبي، والتفاعلات الذهنية والنفسية المصاحبة للنص.
إصدار أحكام القيمة
وفي وسط هذا التجمع المعرفي الذي أحاط بالنقد، هناك عنصر بعينه كان حوله خلاف كبير بين رافض له ومؤيد، هو «إصدار أحكام القيمة» حيث ساد في الخطاب النقدي: أن ينتهي الناقد إلى إصدار الحكم بالجودة أو القبح، وما يتبع ذلك من القبول أو الرفض، وحجة أصحاب هذا التوجه أن غياب أحكام القيمة له مخاطره، وأولها مساواة النص الجيد للرديء، وإتاحة الفرصة لمن لا يمتلكون أدوات الإبداع للاجتراء على الإبداع!.
وفي المقابل هناك اتجاه آخر يتوقف على إصدار الأحكام، لأن في هذا الإصدار مصادرة على حق المتلقي في تذوقه الخاص، وحرمانه من ممارسة حقه في القبول والرفض أمام سطوة حكم الناقد الخبير، ويرى أصحاب هذا الاتجاه إن إصدار الحكم ليس من مهمة الناقد، وإنما هو حاشية إضافية ليس لها ما يبررها إذ تعطي الناقد حقوقاً غير شرعية بها يتحول إلى قاضٍ مهمته الأولى والأخيرة إصدار أحكام البراءة أو الإدانة، أو يتحول إلى شرطي مهمته تحديد الممنوع والمباح، أو يتحول إلى رجل دين مهمته القول بأن هذا حلال وذاك حرام.
النقد التحليلي والتقييمي
ومن طبيعة الأمور أن يكون مثل هذا الاختلاف مشروعاً، دون أن يهدف الاختلاف إلى إعلاء توجّه على آخر، أو أن يلغي اتجاه اتجاهاً آخر، بل المطلوب أن يكون بينهما نوع من التكامل، فيمارس النقد التحليلي مهمته، ويمارس النقد التقييمي مهمته أيضاً.
ومن البديهي أن سلطة «التخصص» بسطت نفوذها في الأزمنة الحضارية المتتابعة، بدءاً من الزمن البدائي إلى الزمن الزراعي، إلى الصناعي، إلى التكنولوجي، وهنا بدأت «البينية» تدخلها الواضح مع المرحلة التكنولوجية، وازداد هذا التدخل مع المرحلة «الرقمية»، وكان تدخلها مصحوباً بطبيعتها الجدلية في الأخذ والعطاء، ثم تجاوزت البينية منطقة الأخذ والعطاء، وتتحول لتجعل العلاقة بين المعارف المتباينة علاقة شبه منطقية على معنى: إن العلاقة بين العلوم والمعارف قد تكون علاقة المقدمة بالتمهيد، أو علاقة المقدمة بالنتيجة، وهو ما أكد وعي الباحثين بأن بحوثهم في حاجة إلى الإفادة، أو الاستعانة ببحوث غيرهم في التخصصات المختلفة.
أهل الصنعة
ويبدو أن الثقافة العربية كانت على وعي مزدوج بالتخصص من ناحية، والموسوعية من ناحية أخرى، وإن أخذ التخصص عدة مصطلحات: أهل الاختصاص، وأهل الصنعة، وأهل المعرفة، وأولو العلم.. لكن الموسوعية ومضمونها في التعدد المعرفي قد نافست التخصص في نفوذه الثقافي، ومن ثم ظهرت المدونات التراثية الموسوعية في الأزمنة الثقافية المتتابعة، وفي مقدمتها مؤلفات الجاحظ، ثم الموسوعات التي حمل اسمها إشارة إلى موسوعيتها مثل «الأغاني» و«الأمالي» و«عيون الأخبار» و«الكامل» و«العقد الفريد» و«صبح الأعشى» وغيرها من الموسوعات الشهيرة في الثقافة العربية.
وقد أشار كثير من المؤلفين القدامى صراحة إلى حتمية تداخل العلوم والمعارف المتباينة، ومن هؤلاء ابن سنان الخفاجي في كتابه «سرّ الفصاحة»، إذ كشف عن حاجة المبدع عموماً إلى الدراية بعلم النحو والتاريخ وأخبار العرب الحياتية والثقافية والاجتماعية، مع دراية بالأنساب والقرابات.
لكل هذا وسواه آثر الباحث المصري الكبير أن يصف مسيرة النقد الأدبي بأنها (مسيرة بينية) إذ إنها مسيرة اعتمدت التداخل أكثر مما اعتمدت الانفصال والتباين سواء إذا نظرنا لهذه المسيرة على المستوى التاريخي أو نظرنا إليها على المستوى الموضوعي والمذهبي، وهذه البينية كانت السمة المركزية التي رافقت النقد الأدبي في مسيرته التاريخية والنوعية، سواء في الثقافة العالمية أو الثقافة العربية بدءاً من الزمن الجاهلي إلى زمن صدر الإسلام، إلى الزمن الأموي فالعباسي فالأندلسي فالمملوكي فالعثماني فالعصر الحديث ومراحله من الحداثة إلى ما بعد الحداثة إلى مبشرات ما بعد الحداثة.