الجواهري.. وتجربته الـشعـريـة
لم يبرز شاعر كلاسيكي يخلفه على عرش الشعر الذي سبقه إليه شوقي
يمتاز بشاعرية دافقة ويقتنص اللفظة العربية ويوظفها بشكل مميز
قصيدته في المهرجان الألفي لأبي العلاء المعري من أجمل إبداعاته
عاش نصف عمره منفياً.. وسجل أخطاءه بجرأة في ذكرياته
من الشعراء الذين يتجاوزهم النقد وتجربته أكبر من عمر العراق المعاصر
ساطع الحصري اعترض على تعيينه مدرساً لأنه يتغنى بـ«فارس»
بقلم – جهاد فاضل:
هذا الكتاب عن محمد مهدي الجواهري الشاعر العراقي الكبير الذي يضعه نقّاد كثيرون في مصافّ أحمد شوقي أمير الشعراء، كتبه الباحث الدكتور جليل العطية، والكتاب يعيد إلى الذاكرة سيرة الجواهري الذي يمتاز بشاعرية دافقة وقدرة كبيرة على اقتناص اللفظة العربية المتينة وتوظيفها التوظيف الشعري الأمثل، ولعله كان أكثر الشعراء المعاصرين معرفة بخلجات الجمهور وأكثرهم تعبيراً عن طموحاته وهمومه، أليس هو القائل:
وبكل بيت من قصيدي منشد
وبكل حفلٍ من شذاتي مجمرُ
المنفى
عاش الجواهري نصف عمره تقريباً منفياً من وطنه، بعيداً عن (دجلة الخير) وفراته الذي يذكره بطفولته، ولقد سجل بعضه في (ذكرياته) التي روى فيها صفحات من حياته وأفكاره، وتناقضاته وهمومه، وسجّل فيها ما ارتكب من أخطاء بكل جرأة وصراحة.
يرى جليل العطية أن اختزال التجربة الإبداعيّة لشاعر عملاق كالجواهري مهمة شاقة، فهو من الشعراء الذين يتجاوزهم النقد، لكن كتابه، كما يضيف، محاولة في تسجيل صفحات من تاريخ العراق الحديث من خلال شاهد تُعتبر تجربته الشعرية أكبر من عمر الدولة العراقية المعاصرة، كما يُعتبر ديوانه بأجزائه السبعة مرجعاً مهماً لدراسة تاريخ العراق المعاصر.
بدأ الجواهري حياته مدرساً في مدارس العراق زمن الملك فيصل ولكن مدير التعليم في العراق في حينه، ساطع الحصري، اعترض على تعيينه بدعوى شعوبيته استناداً إلى قصيدة يتغنى فيها بفارس ومنها هذه الأبيات:
لي في العراق عصابةٌ لولاهمُ
ما كان محبوباً إليّ عراقُ
لا دجلةٌ لولاهمُ، وهي التي
عذبت، تروق ولا الفراتُ يذاق ُ
هي فارسٌ وهواؤها ريح الصبا
وسماؤها الأغصانُ والأوراق
ولكن الملك فيصل الأول يضّمه إلى حاشيته ويعيّنه في قصره موظفاً في التشريفات قبل أن يستقيل من عمله وينصرف إلى العمل في الصحافة كما إلى الشعر.
رثاء الجواهري لنفسه
من أطرف ما ينقله العطية في كتابه رثاء الجواهري لنفسه لا في نهاية حياته، بل في مقتبل عمره، ومن ذلك قوله:
أجِد وأعلمُ عِلمَ اليقين
بأني من الدهر في ملعب
وأنّ الحياةَ حَصيدُ الممات
وأن الشروقَ أخو المغرب!
وأنّ الطبيعةَ والكائناتِ
ما يَستبينُ وما يَختبي
تألبنَ يَسلُبْني فُرصةً
من العُمْرِ إنْ تنأ لا تَقْرب
وان الزمانَ مشى مُسرعاً
يُزاحمُ مَوكبهُ مَوكبي
الموت نبع الحياة الجميل
وبعد أن يقطع نصف قرن من رحلة العمر يطربه وقع زحف السنين بسر الحياة ويرى في الموت نبع الحياة الجميل، بغيره لا تتجدد، ولكن أن تخضبه الأيام بدم، وتفصح عيناه عن سر العدم بنور يتوهج في كأس، فلا حياة بلا موت، ويلذ الشاعر مذاق ظلال الحياة التي اختلط فيها السرور بالهّم، يقول:
سيطر بني وقعُ زحف السنين
بسرّ الحياة وعمق القدم
وتفتح عيني سود الدياجي
ينوّر منها بريق الألم
ستلهبني عاصفاتُ الرياح
فقد ملّ سمعي وئيد النسم
أرى الموت نبع الحياة الجميل
إذا خضبته الليالي بدم
وعن وهج الكأس كأس الوجود
تترجم عيناي سرّ العدم
ألذّ عناق ظلال الحياة
تخالط فيها سرور بهمّ!
ارتقى عرش الشعر
وما أن أطلّ عقد الأربعينيات من القرن الماضي حتى كان الجواهري قد ارتقى عرش الشعر، كان الزهاوي قد رحل، وكان معروف الرصافي قد أحسّ أنه على وشك الرحيل، وسعد لأنه سلّم عرش الشعر إلى الجواهري «ربّ الشعر» كما سمّاه في إحدى قصائده الأخيرة، في هذه الفترة نقرأ له شعراً غير شعره السابق، أي نسيجاً جديداً يطلع به على الوطن العربي في مؤتمر عُقد في دمشق سنة ١٩٤٤ في الذكرى الألفية لأبي العلاء المعري.
لم يكن الشاعر مسبوقاً بالدعوة، وقبل يومين في موعد المهرجان تفجر الجواهري بالمطلع الرائع:
قف بالمعرّة وامسح خدَّها التربا
واستوحِ من طوّق الدنيا بما وهبا!
يقول الجواهري: «كدت أن أوقظ النيام وأنا أعيده بما يشبه الصراخ».
ويمضي الوقت مسرعاً ولا جديد سوى المطلع، ويذهب إلى لبنان. «وأنا على مثل هذه الحال من الضياع، كنت أسمع همساً آخر خارجاً من نفسي، فأسرعت بإمساك القلم لضبط الحروف والكلمات لكي لا يفوتني شيء منه، وإذا بهذا الهمس يتحوّل إلى أبيات ثلاثة:
سَلِ المقاديَر، هل لا زلتِ سادرةً
أم أنتِ خجلى لما أرهقته نصبا ؟
وهل تعمدت إن أعطيت سائبةً
هذا الذي من عظيم مثله سُلبا
هذا الضياء الذي يهدي لمكمنه
لصّاً ويرث أفعى تنفث العطبا
ويضيف الجواهري: «وأعدت النظر وأنا أكاد لا أصدّق هذا الهمس في الحروف التي أمامي، ودفعت الشك باليقين، فضربت الطاولة بجميع يدي، وبسرعة استرعت انتباه من حولي، حتى البعيدين عني، نهضت ودفعت الحساب.
وبدون توقف لحظة واحدة، ركبت سيارة عائدة إلى دمشق ليلاً، إذ انتهت القضية وتوقف الهمس، وصمتت النفس عن حديثها، وأصبحت القصيدة كلها في جيبي»!.
القصيدة/ المعلقة
يقول جليل العطية: إن كلمة (قف) في البيت الأول من هذه القصيدة/ المعلقة لها أهمية استثنائية. فقد اختار الجواهري هذا الفعل بذكاء مفرط، لأن الوقوف هنا ليس وقوفاً تقليدياً على الأطلال، كما يفعل الشعراء القدامى، بل اختار الشاعر الفعلين (قف) و(استوح) لإحداث التوتر المطلوب في ذهن المتلقي، فهما إلى جانب هذه الشدّات وما تحدثه من توتّر في الكلمات (المعرّة، خدّها، التربا، طوق، الدنيا) إنها تقلق ذهن المتلقي وتفصله عن جوّه الاعتيادي ليدخل جوّاً خاصاً يخلعه الشاعر ويفرضه منذ أول بيت عليه!.
ويقول ناقد عراقي آخر هو علي عباس علوان إن هذه الصور الجميلة تأتي من خلال النفاذ السريع المركز بهذه اللحمة الدقيقة (خدّها التربا) التي رسمت في مطلع القصيدة جوّاً مأساوياً سيظلّ مرافقاً لكل أبيات القصيدة الطويلة، وسرعان ما يترك الشاعر صورة المدينة المرزوءة بفقد عظيمها، ليتقدّم إلى المعري من خلال ثلاث صور لماّحة:
– طوّق الدنيا بما وهبا
– طبّب الدنيا بحكمته
– على جرحها من روحه سكبا
هذا التلخيص لفكرة المعري ولثورته ولمحنته جاء سريعاً ونفاذاً، لقد وسّع «الشخص» في شخصية المعري إلى دائرة «الإنساني» و«العام»!.
المعري في شعر الجواهري
بات المعري في شعر الجواهري نموذجاً خالداً لحرية الفكر والتمرّد على القيم البالية، ومثالاً ممتازاً من التاريخ العربي يحسن الجواهري بعثه وإزالة التراب عنه ليشخص فيه حالة الشاعر الحديث ومأساته.
نوّر لنا اننا في أي مدّلج
مما تشككت إن صدقاً وإن كذباً
أبا العلاء وحتى اليوم ما برحت
صناجة الشعر تهدي المترف الطربا
يستنزل الفكر من عليا منازله
رأس ليمسح من ذي نعمة ذنبا
وزمرة الأدب الكابي بزمرته
تفرقت في ضلالات الهوى عصبا
تصيد الجاه والألقاب ناسية
بأن في فكرة قدسية لقبا
وأن للعبقري الفذّ واحدة:
إما الخلود وإما المال والنشبا !
ونظرة عاجلة إلى النسيج الشعري المتقن في هذه الأبيات نكشف أن الشاعر التقط ألفاظاً وصوراً من الموروث القديم وأدخله نسيجه، ملتحمة التحاماً، منصهرة فيه أمثال٬ مدلج، صناجة الشعر النشبا، عصبا..
لقد وظف الشاعر طاقة الصور المكررة قديماً خاصة «صناعة الشعر» واستخدمه ليحرض مجموعة من الشعراء والأدباء الذين يبيعون شعرهم وأدبهم للحاكم وأرباب المال، بعد قرون على تغيّر وظيفة الشاعر والأديب في القرن العشرين.
الجواهري وبحور الشعر
الدراسة الفنية لشعر الجواهري تُظهر أنه لم يهجر البحر الطويل مثلاً، وإن كان قد أكثر من النظم على بحور الكامل والوافر والمتقارب والبسيط والرمل، ومن المجزوءات التي تتدفق عبرها انفعالاته الحادّة، ويجد القارئ في ديوان الجواهري بأجزائه السبعة أكثر من ٤٠٠ قصيدة وقطعة وموشحة تزيد أبياتها على عشرين ألف بيت على حدّ إحصاء ودراسة عبر الصاحب الموسوي، ثم يجد أن شؤون الأمة وهمومها وأيامها قد استحوذت على هذا الديوان الكبير، مما جعل صوت الشاعر عالياً، ونبراته قوية، وإيقاعاته حادة، فإذا تأمل القارئ الموسيقى التي تشيعها هذه القصائد، وجدها غامرة متدفقة متواصلة، لأن الشاعر قد أحسن اختيار بحوره لتتلاطم بمشاعره وأحاسيسه.
أما الغزل فلم يكن غرضاً رئيسياً في شعر الجواهري كالأغراض الأخرى، ولكن ما هو نوع الغزل الذي نتوقع أن يصدر عن شاعر يعيش في مجتمع «الفصل العنصري» إن جاز التعبير بين الجنسين في ستار من حديد؟
أنيتا
في سيرته سيدة فرنسية اسمها «أنيتا» كتب فيها عدة قصائد تُعد من أروع ما كتب من غزل، منها:
أنى وجدت أنيتا لاح يهزني
طيف لوجهك رائع القسماتِ
ويقول الكتاب عن أنيتا ومصيرها: عندما زار الجواهري باريس بعد ستة وثلاثين عاماً، لم يبق من تلك المغامرة الأسطورة سوى بقايا أطياف ذلك الحب الجنوني. كان المقهى الذي شهد بقايا أطياف ذلك الحب الجنوني العاصف قد هُدم ولم يعد له وجود، وبقي مصير أنيتا غامضاً بالنسبة للجواهري.
وقد دفعه فضوله لتسقط أخبارها من هذا وذاك، وقد حدثه أحدهم أنها اعتنقت البوذية واستقرت بعض الوقت في الهند، وأخيراً انتهت في حادث سيارة مفجع، وذري جسدها في أحد الأنهار المقدسة.
كان الجواهري واحداً من كبار الشعراء العرب في القرن العشرين وقد سئل مرة من ترشح لخلافتك، فذكر اسم عبدالأمير الحصيري وهو من الشعراء الذين عُرفوا ببوهيميتهم وقد توفي في ميعة الصبا في أحد فنادق بغداد المتواضعة، بعد أن كان قمة من قمم الشعر العمودي ومن غزلياته التي ينقلها الكتاب:
عنبر الصوت في دماي سرابُ
وحضوري في مقلتيك غيابُ
وانتباهي لغفلة منكِ يا ذا الخجل
المرّ من رضاي ذهاب
أرقتني هداية السحر المكتوم
بالشمس فاستراح الإيابُ
يا رسوب السنين في قعر آهاتي
تأوّه، فقد هواني السرابُ
زعامة العلم والأدب
وكانت الأوساط الثقافية العربية قد تساءلت بعد رحيل شوقي عمن يكون الأمير بعده، وفي هذا الموضوع يقول الشاعر العراقي معروف الرصافي، «إن الزعامة في العلم والأدب لا يمكن أن تكون لقطر على آخر، أو لبلد على بلاد أخرى، إلا إذا كان للأول على الثاني زعامة في السياسة أيضاً.
ذلك لأن القطر أو البلد الذي له زعامة سياسية يكون مركزاً يأوي إليه من الأطراف كل ذي علم وأدب فيجتمع فيه النبوغ العلمي والأدبي وبذلك يتسنى له أن يقود ما يتبعه من البلاد إلى ما شاء من علم وأدب.
وبرأي الرصافي يومها أن مصر ليست كذلك بالنسبة إلى الشرق العربي حتى تكون لها الزعامة الأدبية عليهم. «لا يُنكر أحد أن مصر قد سبقت الشرق العربي بنهضتها في العلم والأدب سبقاً زمانياً، ولكنها لم تنشر فيه ثقافة ولم تعّبد فيه للعلم والأدب طريقاً، فإن جاز أن يجعل ذلك زعامة أدبية على الشرق العربي، جاز أن تشاركها في تلك الزعامة بيروت لأنها أرسلت بقصد التجارة أيضاً إلى الشرق العربي ما أرسلته مصر من المطبوعات.
شاعر العرب الأكبر
في الستينيات من القرن الماضي قلد الشعراء العرب الشاعر اللبناني الأخطل الصغير إمارة الشعر كما هو معروف، وبعد رحيل الأخطل، كان يجري ترتيب مهرجان لمبايعة أمين نخلة بهذه الإمارة، إلا أن ظروفاً سياسية وأمنية جرت في لبنان أجلت هذا المهرجان ثم ألغته لاحقاً.
وقبيل وفاة معروف الرصافي بسنوات، بايع في قصيدة مشهورة الجواهري بهذه الإمارة أرسلها إليه من مدينة الفلوجة حيث كان يقيم، قائلاً: أقول لربّ الشعر مهدي الجواهري»..
ونال الجواهري لقب «شاعر العرب الأكبر»، واعتبره المعجبون بشعره «النهر الثالث في العراق».
وفي عام ١٩٨٤ كتب الدكتور داود سلوم أستاذ الأدب العربي في جامعة بغداد مقالاً رشح فيه الشاعر محمد حسين آل ياسين لخلافة الجواهري.
وقد أنكر سلوم وجود شاعر بعد شوقي وحافظ إبراهيم والزهاوي والرصافي ومدرسة الديوان، وأضاف:
«وكادت الساحة الشعرية يصيبها العقم حتى جاء الجواهري العملاق، فاستطاع في غمرة انتصار دعاة الشعر الحرّ أن يبرهن على أن الشعر العربي بأشكاله القديمة أقدر على أن يلد القصيدة الشعرية الحية السليمة، كما ولدت على يد الجاهليين والإسلاميين، وكما ولدت بعض تجارب الشعراء العباسيين، ولكن الأكيد الذي ننتهي إليه بعد قراءة هذا الكتاب أن الجواهري كان خاتمة عصر، وبعده لم يبرز شاعر عربي كلاسيكي يخلفه على عرش الشعر الذي سبقه إليه شوقي، ولكن لا شك أن هناك شعراء عرباً كباراً أتوا بعد الجواهري لا ينتمون إلى التقاليد الشعرية التي انتمي إليها الجواهري، ولكنهم تابعوا مسيرة الشعر الحديث باقتدار، وعلى رأسهم بدر شاكر السياب من العراق ومحمود درويش من فلسطين.