ثقافة وأدب
الكاتب وقف على أبرز ما لفت نظره بالمؤلّفات العربية

أنا والكتب.. انتصار فكري لتراث العرب القديم

الجاحظ أحدث شرخاً فكرياً عميقاً في الثقافة العربية وصاغ لها مفاهيم مختلفة جذرياً

ابن المقفع أديب أرستقراطي النزعة يمجّد الحضارات القديمة ويجعلها خاتمة المعارف والعلوم

كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد خلق أسلوباً عالمياً جديداً

بقلم – جهاد فاضل:

يمهّد الدكتور طريف الخالدي لكتابه «أنا والكتب» الصادر حديثاً عن منشورات الجمل في بيروت بمقدّمة تدلّ على ما بينه وبين الكُتب من صداقة حميمة عميقة وقديمة تعود إلى أيّام طفولته في فلسطين، وتستمرّ بعد ذلك على مدى حياته في بيروت وفي سواها من المدن والجامعات الغربيّة التي درس أو درّس فيها، وتدلّ هذه المُقدّمة أيضاً على ظروف ودواعي كتابة هذا الكتاب الجميل غير المألوف كثيراً في عالم الكُتب العربية، وقد ورد فيها: «صرفتُ العمر مع الكتب زمناً أطول بكثير من ذاك الذي صرفته مع الناس. والسبب لربما أنني وجدت في الكتاب نوعاً من السلوى لم أجدها عند معظم الناس فقلّ بذلك عدد الأصدقاء وازداد عدد الكتب التي صادقتها. وتقدّم بي العُمر فترسخت عزلتي وأضحى عالمي الحقيقي هو عالم القراءة والكتابة. ويصف فخر الدين الرازي أخلاق سنّ الشيخوخة فيقول إن منها الشك في أكثر ما يقال، والامتناع عن الأحكام الجازمة، والجبن والخوف والعلم بعواقب الأمور وشهوة الأكل والوقاحة والغضب وحبّ السلامة، لستُ أدري كم من تلك الأخلاق أتحلّى بها اليوم، لكني أجد في بعضها وصفاً نفسياً بالغ الدقة لأخلاق الشيخوخة، ولا ريب عندي أن الشك والامتناع عن الأحكام الجازمة والعلم بعواقب الأمور، كلها أمور تأتي في غالب الأحيان من التجارب التي يقع عليها المرء في الكتب، فلو لم تكن للكتب فائدة سوى هذين الأمرين لكانت الفائدة عميمة النفع، أما ما تبقى من فوائد للكتب، فليس ثمة ما أحيل إليه القارئ أفضل وأجزل وأعمق فكراً من الجزء الأوّل من كتاب الحيوان للجاحظ».

في التفكير النقدي

وفي هذه المقدمة التي تعتبر خير مدخل لكتاب عن أفضل الكتب التي عرفها الباحث عبر حياة أكاديمية طويلة، يقول طريف الخالدي إن الوحي المباشر لذكرياته عن الكتب التي سيبسطها، عدة كتب كان آخرها كتاب صدر عام ٢٠١٤ للناقد والأكاديمي البريطاني جون كاري بعنوان «البروفسيور غير المتوقع: سيرة في إكسفورد «وهو كتاب يسرد فيه مؤلفه حياته الأدبية ويأتي فيه على الكتب التي تركت تأثيرها في خياله وعقله. «فراقت لي فكرة هذا الكتاب الذي أهدته لي ابنتي، وهي أيضاً أستاذة جامعية، وشجعتني على السير على خطاه، ووجدت أن الإنسان الذي يمضي جلّ حياته في البحث والتعليم والكتابة الأكاديمية، يكون في الغالب على هامش الحياة العامة والأحداث الجسام، فإذا كان ثمة من فائدة تُرجى من تجارب حياة منعزلة كهذه، فهي تكمن في استعراض ما مّر بذاك الإنسان من الكتب والنظريات التي شغلته عبر السنين، أما ذكرياته الأخرى فهي قد لا تهمّ سوى الأولاد والأحفاد وبعض الأصدقاء والمقربين، هذا إذا اهتمّوا بها أصلاً»..

الباحث الكبير لا يشير بالطبع إلى كل الكتب التي قرأها في حياته، وإنما إلى الكتب التي لفتت نظره، أو استوقفته وتركت أثراً في نفسه، وهي في قسم كبير منها من تراث العرب القديم، الفكري والتاريخي على الخصوص، وهو في الأساس أكاديمي متخصص في التاريخ ومن مؤلفاته كتاب عنوانه «فكرة التاريخ عند العرب». وفي قراءاته لهذه الكتب يعرض لأبرز الأفكار الواردة فيها، أو لما تتضمنه من كنوز فكرية ما تزال صامدة إلى اليوم.

يستوقفه الجاحظ في صفحات كثيرة فيتوقف عنده معجباً منبهراً: «لعلّنا لا نخطئ إذا سمّينا الجاحظ «ميكروكوزم» أي عالم صغير، أحدث الجاحظ شرخاً فكرياً عميقاً في الثقافة العربية، بل قد نقول: «صاغ لها مفاهيم تختلف جذرياً عما جاء من قبل، جال الجاحظ على مختلف العلوم في عصره، وجال أيضاً على معتقدات مجتمعه فوضعها كلها تحت مجهر العقل والتجرِبة والبحث، ونقلها من الانبهار بالماضي إلى الانبهار بالمستقبل وما قد يأتي به العقل من اكتشافات لا تنتهي».

ويصف الجاحظ بصاحب «الفكر المتألق النقدي» الذي كثيراً ما يلجأ إلى السخرية لتفنيد الآراء البالية أو اللّاعقلانية، والمثال الأبرز في تاريخنا لما نسمّيه اليوم «المثقف الملتزم»؛ أي المثقف الذي يجول بالنظر في مشاكل عصره من سياسية واجتماعية وفكرية وأدبية ليرسم لها حدودها ويفكّك خطابها ويضعها في سياقها التاريخي، ولا يتركها إلا بعد أن يزيل ما علق بها من أوهام أو تزمّت أو تقليد، والجاحظ هو الباب الذي نلج منه إلى حضارتنا في أحد عصورها النيّرة.

ويضيف: «ومع أن معظم المتنوّرين العرب في يومنا هذا يجعلون من ابن رشد مثالهم الأعلى في التعقل، غير أنهم لم يلتفتوا بما يكفي لنورانية الجاحظ الذي أرى في مؤلفاته المختلفة آفاقاً علمية أوسع من آفاق ابن رشد».

ويرى أن أرسطو هو في كل مكان، وأنه جزء أساسي من تراثنا الفلسفي والعلمي العربي، ولكن أرسطو لم يسلم من النقد عند العرب القدماء.

فالجاحظ مثلاً يفنّد العديد من نظرياته حول الحيوان. «ونحن اليوم نفتقد إلى روح النقد تلك، والتي تجلّت عند أسلافنا فجعلت منهم أنداداً لأرسطو وأفلاطون.

ولا يحضرني اليوم أيّ كتاب نقدي عميق كتبه مفكر عربي معاصر وخلق أسلوباً عالمياً جديداً في التفكير سوى كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد».

ويذكر أن العديد من الباحثين من أوروبيين وغيرهم قد ألمحوا إلى التقارب بين أبي العلاء في «رسالة الغفران» وبين «كوميديا» دانته «وما زلت أذكر أن أحد زملائي في الدائرة يومئذ وهو الأستاذ ريتشارد لوماي أطلعني على بعض الجمل القصيرة في دانته والتي استعصت عبر العصور على فهم الخبراء، وأثبت أنّها باللغة العربية. هذه العلائق بين دانتي والحضارة العربية ما زالت كما يقول المثل الإنجليزي «تنتظر خروج المحلّفين»، لكي نصل إلى القطع بصحتها، لكنها بلا شك جديرة بالملاحقة العلمية».

ويكتشف عالماً عربياً ذا شأن يُدعى المطهّر بن طاهر الذي لا نعرف عنه ولا عن حياته شيئاً، فكتابه بعنوان «البدء والتاريخ» هو بنظره من أعجب ما كُتب في القرن الرابع للهجرة، بل من كل ما كُتب حول التاريخ وصولاً إلى ابن خلدون.

فهو تاريخ له برنامج فكري محدّد يفصّله في مقدمة طويلة جداً لها منحى فلسفي وكلامي واضح وتنتمي بدون أدنى شك للفكر المعتزلي. «وهذا بحدّ ذاته أمر مثير للاستغراب، إذ نحن لا نعلم أن للمعتزلة كبير اهتمام بالتاريخ، بل إن البعض منهم كالنظّام كان يشكّك ببعض المبادئ الأساسية في علم الحديث كالتواتر مثلاً.. المطهّر يصوّب سهامه الفكرية في عدّة اتجاهات معاً.

فهو يرمي إلى إثبات أن العالم حادث وليس أزلياً (من هنا كلمة البدء في عنوانه)؛ أي أن سهامه تصيب الفلاسفة الدهريين كالرازي وغيره، لكنه يحيل القارئ على كتب الرازي في الخواص الطبيعية إذا أراد ترسيخ علمه في الطبيعيات، ويشيد بمقدمة ابن قتيبة لكتابه «عيون الأخبار» الذي يفيض حكمة وأدباً وشعراً وظرفاً وسخرية. «ولعل المقدمة التي خطّها ابن قتيبة لكتابه من أجرأ ما كُتب عن دور الأدب في تكوين الخلق القويم، والابتعاد عن التدّين المصطنع والرياء.. إن الأدب المتحرر من الأعراف الذي كتبه، مهّد الطريق أمام العديد من المجموعات الأدبية التي تبعته وإن لم تكن جميعها على نفس المقدار من الجرأة والابتعاد عن التصنّع، ولا ريب عندي أن طيف الجاحظ يحوم حول ابن قتيبة «وعيونه» رغم انتقاده للجاحظ، فهو تلميذ للجاحظ، شاء أم أبى، ويدين له بالكثير، لا سيما بالجرأة في التعبير والأسلوب وفي تحرر الفكر ومكانة الأدب المحورية بين العلوم».

تُرى ما الذي يجعل من هذه الأعمال صروحاً تبقى وتدوم على مرّ الزمن؟

لماذا نعود إلى الجاحظ وابن قتيبة والمسعودي وابن خلدون وغيرهم مراراً وتكراراً، ونكتشف عند كل قراءة متجددة أموراً لم نلحظها من قبل؟

«في هذه الأعمال الكلاسيكية ميزة مشتركة هي ميزة تخطي الحدود مع ما يواكب ذلك من نبذٍ للتقليد وتحدٍّ للتقاليد، واستنطاق للمحظورات بهدف الإبقاء على الأبواب مفتوحة أمام كل الأسئلة، فلا يوجد سؤال له جواب نهائي».

ويتناول جوانب من سيرة ابن سينا وابن رشد وأبي سليمان المنطقي السجستاني، حول موضوع التقدم نجد عند ابن سينا استقلالية منعشة ومنشطة للفكر في تناول فلسفة أرسطو، فهو ينتقد بعنف الذين يدافعون عن نظريات أرسطو وكأنها غير قابلة للتنقيح والإصلاح، وسيرته العلمية سيرة ذاتية نادرة في الأدب العربي، أما ابن رشد في رسالته الذائعة الصيت «فصل المقال» فهو يقرّ للمتقدمين بإرساء قواعد العلوم، لكنه يرى أن «الغرض إنما يتمّ لنا في الموجودات بتداول الفحص عنها واحداً بعد واحد، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم». أما الفيلسوف الآخر الذي وجده طريف الخالدي «قريباً للقلب» كما يقال بالعامية، فهو أبو سليمان المنطقي، وهو شيخ أبي حيان التوحيدي الذي كرّس لكلام شيخه كتاب «المقابسات»، وهو كتاب فاتن يصول ويجول فيه أبو سليمان كلما أتاه سؤال من التوحيدي عن موضوع ما.

ويا ليته سأله عن سيرته الفكرية، لأن الأسئلة كلها كانت أدبية وعلمية وفلسفية بحتة. وعن تقدم العلوم كان الرأي الذي ارتضاه أبو سليمان «إن العلوم تقوى في بعض الدهر فيكثر البحث فتغلب الإصابة حتى يزول الخطأ، وقد تضعف في بعض الدهر فيكثر الخطأ ويُحرم البحث عنها، ويكون الدين حاضراً لطلبها. وقد يعتدل الأمر في دهر آخر حتى يكون الخطأ في وزن الصواب».

ويصف ابن المقفع صاحب «كليلة ودمنة» بالأديب الأرستقراطي النزعة الذي ينتمي إلى الهلينستي، أي الإفريقي الآسيوي، بقدر ما ينتمي إلى العالم العربي الإسلامي، والذي يمجّد الحضارات القديمة ويجعلها خاتمة المعارف والعلوم.

ويدافع عن «المدينة» الإسلامية وعن «التقدم» في الإسلام، ويرفض بعض آراء المستشرقين الذين نفوا في المدينة العربية الإسلامية صفة المدينة الحقيقية أو الطبيعية إذ كانت في رأيهم مجرد تجمّع عشوائي للسكن ولا تمتلك الوحدة والاستقلالية اللازمة للمدن «ومن الواضح أن هذا الرأي كانت له خلفية سياسية مؤداها أن المدن العربية شوّهت ما سبقها من مدن تماماً كما شوّهت الحضارة العربية الإسلامية ما سبقها من حضارات (كما جاء في كتاب «الهاجرية» لباتريشيا كرونه ومايكل كوك)، وكان أحد أهم حاملي فكرة المدينة العربية العشوائية هو المستشرق صمويل ستيرن الذي كان يمتّ بصلة القرابة لأفراهام ستيرن مؤسس عصابة ستيرن اليهودية الإرهابية في فلسطين.

ويعرض لبعض المستشرقين الذين يدرسون العربية على امتداد السنين ثم يكتفون ببعض النصوص التي ألمّوا بها زمن الدراسة فيطلقون على أساسها أحكاماً وتعميمات فضفاضة لا تستند إلى استعراض وافٍ للمصادر.

كتب كثيرة قديمة وحديثة، عربية وأجنبية، تتوزع على التاريخ والفكر والأدب والسيرة الذاتية وغير ذلك، يتردد لها صدى واسع في كتاب الخالدي إذا تتعرض للمناقشة أو للإشادة والتنويه، وخلال كل ذلك نلمح وجه أكاديمي جدّي ذي بوصلة سليمة يمتلئ كتابه لا بتجربته مع الكتب التي وهبها حياته، بل وأيضاً بأفكار نيّرات مستقاة من تجربته الأكاديمية الطويلة، يستذكر ما قاله له مرة أحد أساتذته في جامعة شيكاغو، وهو الحذر من مغبة النشر المبكر، أي ما يسمّيه الجاحظ «الرأي الفطير».

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X