أنفه … منجم الذهب الأبيض اللبناني
دواليب البحر عند مدخل القرية تروي قصة استخراج الملح
فارس المر: صناعة الملح إلى الاندثار

بيروت – منى حسن:
أنفه، هي «قرية لبنانية» من قرى «قضاء الكورة» في محافظة الشمال، مزجت على مدى سنوات بين الحضاري القديم والتقليد الأكثر حداثة. وعلى مدخل البلدة الشمالية تستقبلك دواليب الهواء الزرقاء بألوان تذكرنا بأيام الطفولة. منازل وبيوت قديمة يميّزها الأبيض والأزرق وغيرهما من الألوان الزاهية.
تعتبر «أنفه» مدينة الملح الأولى في لبنان، ومنجم الذهب الأبيض وموطن الملّاحات التقليدية التي كانت في ستينيات القرن الماضي تغطي مساحة كبيرة من شاطئها قبل أن تنحسر لتصل اليوم إلى مساحة ضئيلة.
وكان الفينيقيون يستخرجون الملح من شاطئ انفه، ويعملون على نقله عبر مرفأ البلدة إلى صيدا وصور، تأميناً للحاجات الغذائية ولاستعماله في صناعة الأرجوان.
حتى أن الرومان شاركوا في صناعة الملح، أما العثمانيون فمنعوا استخراج الملح نهائياً في العام 1914، لأسباب أمنية، ولكن أهالي أنفه استمروا في صناعته ونقله في جرار فوق أسطح منازلهم ليلاً، ثم باستخراجه وحفظه في حفر صخرية بعد أن اكتشف العثمانيون سرّهم.
الاحتلال الفرنسي
وجاءت سلطة الاحتلال الفرنسي لتمنع إنتاج الملح وأمرت بتكسير الأجران، فتظاهر الأهالي وقد استعادوا إنتاج الملح بعد الاستقلال. وقد كان العام 1952 مفصلياً، إذ جرى تنظيم استثمار الملّاحات قانونياً، ما أوجب الحصول على تصريح ودفع رسوم. قبل أن تقوم وزارة المالية بإعفاء أصحاب الملّاحات من دفع الرسوم في العام 1994 تشجيعاً للإنتاج الوطني. لكن الدولة في المقابل لم تقم بحماية الإنتاج من المنافسة الخارجية، ما تسبّب بأزمة أدّت إلى إهمال الملّاحات نتيجة إغراق الأسواق اللبنانية بالملح المصري المعفى من الرسوم الجمركية.
دواليب للبحر
«جمعية مهرجانات أنفه» برعاية بلدية أنفه وبالتنسيق معها، رفعت 3 دواليب للبحر عند مدخل البلدة على الأوتوستراد الذي يربط بيروت بطرابلس، بغاية حفظ التراث الإنفاوي في استخراج الملح منذ العهد الفينيقي. وقد طليت الدواليب باللونين الأبيض والأزرق في رمزية للبحر.
ثورة الملح
الباحث في شؤون البيئة ومؤلف كتاب «ملح لبنان» حافظ جريج أعلن عن «ثورة الملح»، رداً على قرار منع ترميم الملاحات البحرية وصيانتها، واعتبار تشغيلها تعدياً على الأملاك العامة البحرية.
ويؤكد أمين سرّ «هيئة حماية البيئة والتراث» في الكورة وجوارها المهندس جرجي ساسين أن الملّاحات البحرية لا تدخل في إطار التعديات على الأملاك البحرية، إذ أن «التعديات تقوم على ما هو غير مرخّص، في حين أن الملّاحات تعمل بموجب تراخيص». ويرى أن «إدارة الأملاك العامة لم تأخذ بعين الاعتبار قطاع إنتاج الملح، ضمن السياسة العامة في الدولة، إذ أن الملّاحات صنّفت بأكثريتها مناطق سياحية، ووجود المنتجعات السياحية على الأملاك البحرية ساهم بتفضيل السياحة على استخراج الملح».
واستنكر جاك عازار، المسؤول عن «جمعية أصدقاء البحر» في أنفه «العجز عن المحافظة على هذا التراث الذي هو من تاريخ البلدة، فجيل الشباب ابتعد عن هذه المهنة وجيل الآباء قل عدد المالكين والعاملين منهم في الملاحات، ودواليب الهواء التقليدية التي كانت تساعد في تكرير المياه زالت هي أيضا».
نقمة الأهالي
وما يثير نقمة الأهالي اليوم أنه وبعد أن كان قطاع صناعة الملح يشكّل مورداً رئيسياً لغالبية أبناء أنفه، تراجع ليقتصر على بضع عائلات لا تتجاوز 15. وهي تتمنى استمرارية هذا القطاع وتطالب بدعم الدولة بدل العمل على إلغائه.
واعتبر جورج القرم أن الملّاحات لا تعمل على قطع تواصل الشواطئ، أو حجب المناظر الطبيعية، أو إحداث تلوث أو منع الأهالي من التمتع بالسباحة أو الصيد، وتساءل أين يكمن تعدي الملاحات على الأملاك العامة البحرية؟، معتبراً هذه الادعاءات حيلة وأسلوباً ملتوياً لمُصادرة الشاطئ لمشاريع النافذين. وتمنى جوزيف مخائيل دعم ما تبقى من الملّاحات «لأنها من تراث البلدة، وأجدادنا يعون أهمية وجودها، فهي رمز انفه».
ملح الشقاء
يقولون في الملاحات إنه لو أن الملح لم يستمد ملوحته من البحر لكان استمدها من العرق الذي يسيل من جباه الملّاحين خلال الكدح وملء الأجران.
مالك عثمان الذي يعمل بصناعة الملح منذ 66 عاماً يشكو من أن ما يحصل عليه لا يوازي تعبه. ويضيف بنبرة أسى «حرمنا آباؤنا من التعليم كي نكمل مسيرة الملح ولإعانتهم في تحصيل لقمة العيش. لكن أولادنا درسوا المحاماة والطب والهندسة وحتماً لن نجدهم يعملون في الملاحات من بعدنا».
ويعمل منتجو الملح على تصريف إنتاجهم لتجّار وأفراد بقيمة تتراوح بين دولارين وأربعة دولارات للكيلوجرام الواحد.
ويقول فارس المر: «نشجّع أولاد قريتنا الذين يعملون في مهنة ورثوها عن أهلهم». ولكن الخوف من أن تندثر في المستقبل.
قلعة أنفه
بقي عدد من آثار قلعة أنفة والعديد من الأثارات الفينيقية وغيرها من الحضارات، وبقايا معاصر وفسيفساء ومغاور بحرية وكنيسة سيدة الريح، وهي من أقدم كنائس المنطقة وفي أنفة «دير الناطور» من عهد الصليبيين، وكنيسة القديسة كاترينا وكنيسة القديس سمعان وكنائس قديمة عدة.