الشكر والصبر .. منازل وأسرار في القرآن والسنة النبوية
خصّ فضيلة الشيخ د. يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الراية الرمضانية بنشر أحدث مؤلفاته بعنوان «الشكر والصبر».
يتناول الكتاب منزلتين في سلوك الإنسان المؤمن الذي يبتغي مرضاة الله، وهما «الشكر والصبر»، وقد نوَّه بهما القرآن، ونوَّهتْ بهما السُنّة، ونوّه بهما الصحابة ومن اتبعهم بإحسان من خيرة أبناء الأمة المحمّدية وعلمائها وأبطالها ورجالها ونسائها، ممن أثنى الله عليهم في كتابه، وأثنى عليهم رسوله في حديثه، وأثنى عليهم صفوة الأمة في مختلف أجيالها.
هذان العنصران هما: الشكر والصبر، أو الصبر والشكر.
ويقول القرضاوي في مقدّمة كتابه: «هناك ملحظ يلحظه كل من قرأ القرآن بتأمُّل، حيث يجد الصبر مقدَّماً على الشكر.. فقد ذكر القرآن الكريم 4 مرات في سوره المكية اقتران الصبر بالشكر، وقدّم الصبر على الشكر في قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»، فقدّم «صبّار» على «شكور» وكلاهما من صيغة المُبالغة. ولعل في هذا دلالة على تقديم الصبر على الشكر. وقال تعالى في سورة إبراهيم: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»، إبراهيم:5.
وقال عز وجل في سورة لقمان: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»، لقمان:30.
من مقامات أهل اليقين
منــزلــة الشكــر في الـــديـــن
قال ابن القيم: «وأصل «الشكر» في وضع اللسان: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورًا بيِّنًا. يقال: شَكِرَت الدابة تَشْكَر شَكَرًا على وزن سَمِنَت تسمَن سِمَنًا: إذا ظهر عليها أثر العَلف. ودابة شَكُور: إذا ظهر عليها من السِّمَن فوق ما تأكل وتُعطَى من العلف.
وفي صحيح مسلم (في حديث يأجوج ومأجوج): «حتى إن الدواب (يعني: آكلة اللحوم كالسباع) لتَشْكَر شَكَرًا من لحومهم). أي لتسمن من كثرة ما تأكل منها.
وكذلك حقيقته في العبودية، وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافًا. وعلى قلبه: شهودًا ومحبةً. وعلى جوارحه: انقيادًا وطاعةً).
منزلة الشكر:
وللشكر منزلة عظيمة في الدين، ومقام من مقامات أهل اليقين، قرنه الله تعالى بالإيمان، وجعلهما حاجزين من نزول العذاب، فقال: «مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا»(النساء:147). وجعله سبحانه المقابل للكفر، والمَرْضي له من أفعال عباده فقال: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ»(الزمر:7). وقال: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»(إبراهيم:7).
والشكر غاية إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ»(البقرة:151).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت له زوجته عائشة مشفقة عليه: لِمَ تصنعُ هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا).
وقال الشاعر:
لو كنتُ أعرفُ فوق الشكرِ منزلةً أعلى من الشكر عند الله في الثمنِ
أخلصتها لكَ من قلبي مهذَّبة شُكْرًا على صُنع ما أوليت من حسنِ
قال ابن القيم عن منزلة الشكر من منازل السائرين إلى الله: «وهي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضا وزيادة، فالرضا مندرج في الشكر، إذ يستحيل وجود الشكر بدونه.
وهو نصف الإيمان – كما تقدم – والإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر.
وقد أمر الله به، ونهى عن ضدّه، وأثنى على أهله، ووصف به خواصَّ خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته. وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتق لهم اسمًا من أسمائه، فإنه سبحانه هو «الشكور»، وهو يُوصل الشاكر إلى مشكوره، بل يُعيد الشاكر مشكورًا.
وهو غاية الرب من عبده، وأهله هم القليل من عباده. قال الله تعالى: «وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُوْنَ»(النحل: 114)، وقال: «وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ»(البقرة: 152)، وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ»(النحل: 120، 121)، وقال عن نوح عليه السلام: «إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا»(الإسراء: 3)، وقال تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(النحل: 78)، وقال تعالى: «وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(العنكبوت: 17)، وقال تعالى: «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(آل عمران: 144)، وقال تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»(إبراهيم: 7)، وقال تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»(إبراهيم: 5).
وسمَّى نفسه «شاكرًا» و«شكورًا»، وسمَّى الشاكرين بهذين الاسمين. فأعطاهم من وصفه. وسماهم باسمه. وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلًا.
وإعادته للشاكر مشكورًا، كقوله: «إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا»(الإنسان: 22). ورضا الرب عن عبده به، كقوله: «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ»(الزمر:7)، وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه، كقوله: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ»(سبأ: 13). وفي «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قام حتى تورَّمت قدماه. فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا؟).
وقال عليه الصلاة والسلام لصاحبه معاذ بن جبل: «والله يا معاذ، إني لأحبُّك. فلا تنسَ أن تقول في دُبُر كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
وفي المسند وسنن أبي داود والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم أعنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكُرْ لي ولا تمكر عليَّ، واهدني ويسِّر الهدى إليَّ، وانصرني على من بغى عليَّ، رب اجعلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رهَّابًا، لك مِطواعًا، لك مُخبتًا، إليك أوَّاهًا مُنيبًا، ربِّ تقبَّلْ توبتي، واغسِلْ حَوْبتي، وأجب دعوتي، وثبِّت حجَّتي، واهدِ قلبي، وسدِّد لساني، واسْلُل سخيمة قلبي).