الشعــــر المســـرحي في الأدب العربي الحــــديث
هل أحمد شوقي رائد المسرحية الشعرية؟
أمير الشعراء أدخل الشعر المسرحي إلى عالم الأدب
استكشاف رحلة الشعر المسرحي في الأدب قبل شوقي وبعده
شعراء كثيرون كتبوا مسرحيات بعد شوقي
هناك شروط ضرورية لنجاح المسرحية الشعرية
أعمال أبو شادي وعزيز أباظة ومحمود غنيم انتكاسة للمسرح الشعري
باكثير ساهم بدور كبير في تطور المسرحية الشعرية
حلقة التطور عنوانها باكثير والشرقاوي.. وحلقة التجديد قادها عبدالصبور
بقلم – جهاد فاضل:
هناك إجماع من نقاد الأدب على أن أمير الشعراء شوقي هو رائد المسرحية الشعرية في الأدب العربي، ولكن هذا الإجماع من النقاد ليس في محله، فالمسرحية الشعرية كتبها قبل شوقي كثيرون، وكثيراً ما عرفت طريقها إلى التمثيل، سواء في مصر أو في سواها في البلاد العربية، ويحاول هذا البحث للدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي وعنوانه «المسرحية الشعرية في الأدب العربي الحديث» أن يستكشف رحلة الشعر المسرحي في الأدب قبل شوقي وبعد شوقي ليتعرف حقيقة هذه الريادة، فإذا كان قد قُصد بها ما يقوله طه حسين من أنه «منشئ الشعر التمثيلي في الأدب العربي» فإن ذلك لا يمثل واقع الشعر المسرحي، أما إذا قُصد به أنه الشاعر الذي أكّد الشعر في عالم المسرح وأدخل الشعر المسرحي عالم الأدب، فإن ذلك يمثل واقع الدور الذي لعبه شوقي في الشعر المسرحي، وهذا الدور ما زال موضع تساؤل مع كل الآراء النقدية التي وُجّهت لمسرح شوقي الشعري، إذا لم تكن ريادة شوقي بهذا المعنى فريدة في الأدب العربي، فإن كثيراً ممن حاولوا تجربة المسرح الشعري بعده كانوا أيضا روادا حاولوا أن يثروا تجربة المسرح الشعري ويطوروها، غير أنهم جميعا جعلوا من شوقي محور الارتكاز سواء في اتفاقهم معه أو في اختلافهم عنه، وكأن كثيرا منهم غافلا من أن شوقي نفسه كان يرتكز على تجارب سابقة عليه وعلى تجربة تحيط به لم يكن يودّ أن يخرج عليها بقدر ما كان يريد أن يضع نفسه في خضمها.
المسرح وتطوره
ونقرأ في البحث أن اللغة العربية عرفت المسرح بشكله الغربي عام ١٨٤٧ حين أنشأ مارون النقاش مسرحه في بيرت وقدّم عليه ثلاث مسرحيات هي «البخيل»، و«أبو الحسن المغفل» و«السليطي الحسود»، وقد توقف مسرحه سنة ١٨٥٤ إلا أن التمثيل لم يتوقف في العالم العربي، فقد كان البداية ولم يكن النهاية، ففي دمشق تكونت سنة ١٨٦٥ فرقة أبو خليل القباني، وظهرت في القاهرة سنة ١٨٧٠ فرقة يعقوب صنوع، ثم وفدت على مصر فرقة سليم النقاش سنة ١٨٧٦ وهو نفس التاريخ الذي قدم فيه اليازجي مسرحيته الشعرية «المروءة والوفاء» ومنذ هذا التاريخ لم تتوقف معركة المسرح العربي، وفي سنة ١٨٨٤ وفد على مصر من دمشق أبو خليل القباني ليضيف لمسرحها حياة جديدة، وفي سنة ١٨٩١ كوّن إسكندر فرح فرقته المسرحية التي شاركه فيها سلامة حجازي، وألّف شوقي في أكتوبر ١٨٩٣، وهو في باريس أول مسرحية شعرية له وهي مسرحية «علي بك الكبير» وطبعت سنة ١٨٩٣ وكتب بعدها سنة ١٩٠٧ مسرحية «البخيلة» وفي سنة ١٩٢٧ مسرحية «مصرع كليوباترا» وقد مثلتها فرقة فاطمة رشدي وأخرجها عزيز عيد، وكانت هي المسرحية التي أكدت دور شوقي في المسرح الشعري الذي دعمه بعد ذلك بكتابته لست مسرحيات أخرى، مما أدّى إلى أن يتابع نقاد الأدب العربي مسرح شوقي بالدراسة.
ريادة شوقي
ومع أن محمود عباس العقاد حاول أن ينال منه في مسرحيته «قمبيز» في كتابه «قمبيز في الميزان»، فإن رأي العقاد لم يؤثر على رؤية النقاد وجمهور الأدب العربي لدور أحمد شوقي في المسرحية الشعرية وعدّوه رائداً لها، ولن تتم معرفة حدود هذه الريادة إلا بتعرف علاقة المسرح العربي بالشعر، ولا يتم التعرف على هذه العلاقة إلا بالعودة إلى فنون التمثيل الأولية التي عرفها العرب، وهي ما يمكن تسميتها بفنون الفرجة العربية ومعرفة علاقتها بالشعر، فإن فنون، الفرجة العربية هي التي ساهمت في ميلاد المسرح، فالمسرح العربي بشكله الغربي قد استعار من الغرب الشكل وأضاف إليه المضمون والصياغة والإطار التي استعارها من تراث الفرجة الممتدة جذوره في التاريخ العربي، وفنون الفرجة العربية ومنها المسرح الشعبي كانت على اتصال وثيق بفن الشعر ولم تنبت عنه.
من هذا العرض الذي يقدمه البحث يستنتج أن العرب المحدثين عرفوا المسرحية الشعرية قبل شوقي، ولكن هذه المسرحية الشعرية لم تلفت النظر ويتوقف الناس عندها، كما حصل مع مسرحية شوقي أو مع مسرحه الشعري.
المسرح الشعري
بدايةً يمكن القول إن المسرح الشعري عمل صعب لأنه يتحرك في منطقتين: دائرة المسرح ودائرة الشعر، ولكي تنجح المسرحية الشعرية فلا يكون ذلك مدعاة لنجاحها، وكذلك العكس صحيح، ومن هنا كانت الصعوبة التي واجهت كتّاب المسرح الشعري، فهناك كتاب مسرحيون لم يكونوا شعراء متميزين سقطت أعمالهم وكان ضعف الشعر سببا لذلك السقوط، كما كان هناك شعراء مجيدون سقطت أعمالهم لأنها لم تكن ناجحة فنياً، ومن هنا فإن حركة المسرح الشعري لم تخرج عن دائرة الحركة الشعرية والمسرحية، لذا إن أراد الكاتب المسرحي أن ينجح، فإن عليه أن يكون شاعراً من شعراء جيله وواحداً من المسرحيين، الشعر على المسرح ليس هواية، بل قدرة متمكنة تفرض نفسها على الجمهور.
وليس من بين كتاب العرب الذين كتبوا للمسرح من سلمت له قيادة الشعر وإمارته، واعترف له بالسبق في عالم الشعر والتفوق على أبناء جيله بإجماع منقطع النظير كما حدث لشوقي، وهناك إجماع أيضاً على أن شعر شوقي المسرحي قد وصل إلى قمة شعرية عليا، وشعره في هذه المسرحيات يمثل المرحلة الأخيرة في تطوره الشعري، وهو يسير في خطين أساسيين يسيران مع طبيعة المرحلة التي كتب فيها مسرحه وهما التياران الواقعي والرومانسي.
مذهب الحقيقة
وقد برز التيار الواقعي بقوة إبان الحرب العالمية تحت اسم مذهب الحقيقة وفي الوقت نفسه كانت الحركة الواقعية تبرز في ميدان المسرح.
وقد عبّرت عن هذا التيار مسرحيتا «البخيلة» و«الست هدى»، وإن كانت «البخيلة» لم تخرج كثيراً عن الرومانسية، فهي تمجد الحب وتنتصر له، أما الاتجاه الرومانسي فكان ظهر في ميدان المسرح قوياً مع إنشاء سلامة حجازي مسرحه سنة ١٩٠٥، كما برز واضحاً مع ظهور صحيفة «الجزيرة» وأصبحت له السيادة في العشرينيات من القرن الماضي، وتمثل في شعراء هاجموا شوقي، كما تمثل في شعراء أخرين دافعوا عنه، كما تمثل في شعر شوقي المسرحي، في خمس من مسرحياته وهي جميعا تمجد الحب وتغني له وتجعله أساساً تبنى عليه أزمة هذه المسرحيات، حاول شوقي أن يقيم أعمالاً تراجيدية وكوميدية متصلة بالعالم المحيط به.
بنى شوقي الصراع في جميع مسرحياته على الحب كما ذكرنا، قامت مسرحية «مجنون ليلى» على حب قيس لليلى وهو حب لم يتحقق ولقد تسبب الحب في بعد ليلي عن قيس، رفضه أهلها لأنه شبّب بها، وكان شعره مدعاة لفراقه عنها.
وإذا كان الشعر قد وجّه وردا لليلى، فإن حب قيس لليلى وجهته قوة كونية تحافظ على هذا الحب وترعاه كما تحافظ على ليلى وتصرف عنها هو الزواج.
كانت هذه القوة الكونية هي قوة الجني الأموي شيطان قيس الذي لعب دوراً مهماً في بناء النص المسرحي وفي الصراع الدائر في المسرحية، فهو الممسك بخيوط هذا الحب.
ملامح المسرحية الشعرية الشوقية
ويحيط الباحث قارئه ببعض ملامح المسرحية الشعرية الشوقية، فالموت مثلاً يلعب دوراً مهماً في جميع مسرحيات أمير الشعراء غير أنه حوّل أربعا منها إلى تراجيديات، بينما لم تحول مسرحية «عنترة» إلى تراجيديا لأن الموت لم يمثل فيها مأساة للبطل، فعنترة بطل قوي قادر كان يصنع الموت وينزله على أعدائه ولم تظهر عليه لحظة ضعف يسقط فيها.
ويكون موت كليوباترا بداية مأساة شعب بكامله، ذلك أن مصرعها هو تراجيديا مصر.
وتلتقي مسرحية علي بك الكبير مع مصرع كليوباترا بأن لعب الموت الدور نفسه: فقد انتهى الموت بمأساة مصر.
وتلعب الغنائية دوراً مهما في جميع مسرحيات شوقي الشعرية باستثناء مسرحية «الست هدى» الأمر الذي دفع بكثير من النقاد إلى القول بأن شوقي لم يقدم في مسرحياته سوى شعر غنائي.
على أن غنائية شوقي لم تكن مفتعلة أو مفروضة على الموقف المسرحي، لكنها كانت جزءا أساسياً من بنية العمل المسرحي في خمس من مسرحياته هي: « مصرع كليوباترا» و«مجنون ليلى» و«عنترة» و«قمبيز» وعلي بك الكبير حتى ليمكن تسميتها «تراجيديات غنائية» ولم تتوقف الغنائية عند هذه المسرحيات، وإنما تعدتها إلى المسرحية الكوميدية «البخيلة» بينما تخلصت مسرحية «الست هدى» الكوميدية من الغنائية تماماً.
وفي مسرحيات ست تناول شوقي موضوعاً متصلاً اتصالاً وثيقا بالشعر الغنائي هو الحب، ويجد القارئ في الصفحات التي خصصها الحجاجي للمسرح الشعري عند شوقي تفاصيل وافية عن هذا المسرح لا حاجة في عرض سريع للكتاب إلى الغوص فيها.
تقليد شوقي
بعد شوقي أخذ كثير من الشعراء في الوطن العربي يقلّدونه، في البحرين وسوريا والعراق ولبنان بالإضافة إلى مصر، فقد كتبوا مسرحيات شعرية متوسمين خطى شوقي، منهم أحمد زكي أبو شادي وعزيز أباظة ومحمد طاهر الجبلاوي ومحمود غنيم وعلي عبدالعظيم، والملاحظة الأولى في كل هذه الأعمال أنها لم تتقدم خطوة على أعمال شوقي، بل تأخرت خطوات، فهي تابعة لمسرح شوقي وتمثل انتكاسة لحركة المسرح الشعري.
وليس ذلك غريباً، فجميع هؤلاء الشعراء اعتمدوا في كتابتهم المسرحية على مقدرتهم الشعرية، أن تكون لهم قدرة شوقي، فضّم ذلك إلى رصيدهم الشعري ليأخذ العمل المسرحي حجمه الحقيقي مساوياً لحجم قدرة الشاعر الشعرية، ومن هنا أسدلت ستر النسيان على معظم هذه المسرحيات وضاع الكثير عنها، وما بقي منها أصبح ذكرى لهذه التبعية.
تطويع الشعر العربي للمسرح
وإذا كانت تجربة شوقي المسرحية قد وجدت صدى لها من أصحاب الاتجاه التقليدي في الشعر مقلدين، فقد وجدت صدى آخر حاول أن يطوّر هذه التجربة الشعرية الجديدة.
وتمت محاولة شعرية لتطويع الشعر العربي للمسرح، وكان رائد هذه المحاولة علي أحمد باكثير الحضرمي المتمصّر، وقد كتب مسرحيتين: الأولى هي مسرحية «هّمام» أو «في عاصفة الأحقاف» سنة ١٩٣٤ ثم مسرحية «أخناتون» سنة ١٩٤٠.
وتُعدّ تجربة باكثير في المسرح الشعري تجربة رائدة وبالذات في ميدان الشعر ربما كان مرد ذلك إلى أنه دخل ميدان المسرح أولاً ثم استخدم فيه الشعر، وهذا ما دفعه إلى أن يقوم بتجربة شجاعة تواجه عمود الشعر العربي القديم وتكسره وتستبدل به بنية جديدة، لو كان باكثير شاعراً من الشعراء المعروفين لخاف من التجربة، ولكان ربما أحجم عنها، ولكنه كاتب مسرحي وهذا ما دفعه إلى التجريب ملتقياً مع طبيعة المسرح العربي المتجربة نحو التجربة وفتح آفاق جديدة لها، وكانت تجربته في هذه المسرحية في الأداة نفسها.
وتوقفت حركة المسرح الشعري بعد هذه التجربة الرائدة حتى سنة ١٩٥٩ أي مدة تسعة عشر عاماً.
مسرح الشرقاوي
ثم ظهرت مسرحية عبدالرحمن الشرقاوي «جميلة بوحريد» سنة ١٩٤٩ لتعبر عن الصراع الدائر بين العرب والاستعمار من أجل التحرر القومي، وكما كان هناك ثورة في عالم الشعر أخذت في تكسير عمود الشعر القديم والبحث عن روافد إيقاعية وبنائية للشعر العربي، لم يكن الشرقاوي في كتابة شعره المسرحي يتحرك من فراغ، وإنما كانت حركته مواكبة لثورة الشعر الجديد.
كتب الشرقاوي ثماني مسرحيات شعرية: مأساة جميلة بوحريد، والفتى مهران، ووطني عكا وثأر الله، الحسين ثائراً والحسين شهيداً، وصلاح الدين النسر الأحمر والنسر والغربان والنسر وقلب الأسد وعرابي زعيم الفلاحين، وكتب مسرحية من فصل واحد هي مسرحية تمثال الحرية.
مسرح صلاح عبدالصبور
ونصل إلى مرحلة صلاح عبدالصبور ومسرحه الشعري، وهي مرحلة يصفها أحمد شمس الدين الحجاجي بالنضج، نضج التركيب الشعري، عنده كثيراً عما كان عليه عند علي أحمد باكثير وعبدالرحمن الشرقاوي في مسرحياتهما الشعرية برأيه. النضج هنا ليس النضج المسرحي وإنما النضج في التركيب الشعري. رؤية مسرح عبدالصبور في دائرة الشعر المسرحي أمر ضروري ليعرف الإنجاز الذي حققه مسرحه، وإن كان هناك إنجاز، فقد يساعد ذلك على رؤية مسرح عبدالصبور من حيث هو وحدة لنرى بنيته الفنية، فقد يوضح ذلك مكان مسرحه الصحيح في دائرة حركة المسرح الشعري، إنه بالتأكيد صاحب حلقة متميزة بأدائها الشعري.
إن امتداد الحركة الشعرية في المسرح بحلقاته الثلاث، حلقة التأصيل عند شوقي، وحلقة التطور عند باكثير والشرقاوي، وحلقة التجديد عند عبدالصبور، إنما هي تواصل في حركة مسرحية شعرية واحدة يمكن تسميتها بفترة نشأة المسرحية الشعرية وتطورها والبحث الذي كتبه أحمد شمس الدين الحجاجي حول تاريخية المسرح الشعري العربي لم يسبق إليه من حيث الإحاطة والتقييم.