المحليات
بناها الصحابي القائد عتبة بن غزوان

البصرة.. تاريخها وحضارتها

أول مدينة إسلامية بنيت خارج الجزيرة العربية زمن الفتوحات

البصرة أشهر مدن العراق، وأول مدينة إسلامية بُنيت خارج الجزيرة العربية زمن الفتوحات الإسلاميّة، كانت تدعى: قبة الإسلام ومقر أهله بالعراق، بناها عتبة بن غزوان سنة 14هـ، وصارت مصر الإسلام ومحل الصحابة والتابعين والمجاهدين.

كانت البصرة في الجاهلية من ثغور العراق، فيها خليط من أمم شتى؛ فرس ويونان أحلهم فيها الإسكندر، وهنود انتشروا في بطائحها، وقد نزلها العرب منذ القديم، كما فيها أنباط غير قليلين. وكانت هي والأبلة مركزين للتجارة الداخلية والخارجية، وكان يرتادها تجار العرب، وتردد عليها أبو بكر الصديق في الجاهلية مرات.

البصرة في كلام العرب: الأرض الغليظة التي فيها حجارة صلبة بيضاء. ومدينة البصرة مدينة عراقية عظيمة، كان العرب يسمونها (أرض الهند)، تقع على الضفة الغربية (اليمنى) لنهر شط العرب، الذي يتكون من التقاء نهري دجلة والفرات، ويصب في الخليج العربي. ولم تكن البصرة في أيام الفرس، وإنما مصرها العرب أنفسهم، فكانت أول مدينة عربيّة أُنشئت في العصر الإسلامي، وقد مصرت قبل الكوفة.

وأول إنشائها كان في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بناها الصحابي القائد عتبة بن غزوان رضي الله عنه، وهناك اتفاق بين المؤرخين أن أول من بناها عتبة بن غزوان رضي الله عنه، غير أنهم يختلفون في زمن بنائها، بين سنة 14هـ/635م، أو 15هـ، أو 16هـ، أو 17هـ، ومراد ذلك اختلافهم هل كان بناؤها قبل فتح المدائن 16هـ أو بعدها.

وخلاصة أمرها أن خالد بن الوليد لما تقدّم لفتح العراق عام 12هـ سار إليه والبحر، ونزل في موضع يسمى (الأبلة) وكان بلداً عظيماً في زاوية الخليج الفارسي يتخذه الفرس مسالح لهم، فلما ولي عمر بن الخطاب الخلافة، وتقدم المسلمون في بلاد العراق، ولى عتبة بن غزوان تلك الأطراف.

قال الطبري نقلًا عن المدائني: «وفي هذه السنة -14هـ – وجّه عمر بن الخطاب عتبة ابن غزوان إلى البصرة، وأمره بنزولها بمن معه، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم». ويتفق هذا مع رواية الشعبي أنه لما قُتل مهران قائد الفرس صفر 14هـ بعث عمر إلى عتبة: «قَدْ فَتَحَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى إِخْوَانِكُمُ الْحِيرَةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقُتِلَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهَا، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَمُدَّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوَجِّهَكَ إِلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، لِتَمْنَعَ أَهْلَ تِلْكَ الْجِيزَةِ مِنْ إِمْدَادِ إِخْوَانِهِمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَتُقَاتِلَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْكُمْ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّه». وزاد أبو حنيفة الدينوري: «وقاتلهم مما يلي الأبلة». فتقدم إليها عتبة في خمسمائة وقيل ثمانمائة مقاتل، فنزلها في ربيع الأول – أو الآخر- 14هـ.

وعند البلاذري: «لما نزل عتبة بْن غزوان الخريبة (مسالح الفرس قريبة من الأبلة) كتب إِلَى عُمَر بْن الخطاب يعلمه نزوله إياها وأنه لا بد للمسلمين من منزل يشتون به إذا شتوا، ويكنسون فيه إذا انصرفوا من غزوهم، فكتب إليه اجمع أصحابك في موضع واحد وليكن قريباً من الماء والرعي واكتب إِليّ بصفته، فكتب إليه: إني وجدت أرضاً كثيرة القصبة في طرف البر إِلَى الريف ودونها مناقع ماء فيها قصباء، فلما قرأ الكتاب، قَالَ: هَذِهِ أرض نضرة قريبة من المشارب والمراعي والمختطب، وكتب إليه أن أنزلها الناس، فأنزلهم إياها ..، وذلك في سنة 14هـ».

وفي رواية أن عمر بعث لعتبة يقول: «انْطَلِقْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأَدْنَى أَرْضِ الْعَجَمِ، فَأَقِيمُوا». فنزلوا موضع البصرة. فأقام عتبة شهراً، ثم خرج إليه أهل الأبلة، فناهضهم عتبة، فمنحه الله أكتافهم وانهزموا. وفي رواية سيف بن عمر أن البصرة مصرت في ربيع سنة 16هـ، وأن عتبة بْن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد بن أبي وقاص من جلولاء وتكريت والحصنين، وجهه إليها سعد بأمر عمر.

وذكر اليعقوبي في البلدان وغيره أن عتبة بن غزوان مصَّر البصرة سنة 17هـ، وقال ياقوت: «قال الأصمعي: لما نزل عتبة بن غزوان الخريبة، ولد بها عبد الرحمن بن أبي بكرة، وهو أول مولود ولد بالبصرة، فنحر أبوه جزوراً أشبع منها أهل البصرة، وكان تمصير البصرة في سنة أربع عشرة قبل الكوفة بستّة أشهر، وكان أبو بكرة أول من غرس النخل بالبصرة وقال: هذه أرض نخل، ثم غرس الناس بعده، وقال أبو المنذر: أول دار بنيت بالبصرة دار نافع بن الحارث ثم دار معقل بن يسار المزني».

ولما نزل المسلمون البصرة، كان أول ما شيده عتبة بن غزوان في هذه البقعة مسجداً من قصب مع دار إمارة ثم صار المسلمون ينشئون المنازل من القصب أيضاً حتى إذا غزوا محلاً نزعوا القصب وحزموه حالاً فإذا عادوا من الغزو سالمين آمنين أعادوا المنازل إلى ما كانت عليه.

والمؤذنون في مسجد عتبة بالبصرة من ولد المنذر بن حسان العبدي، وكان مؤذن عبيد الله ابن زياد، فبقي ولده يؤذنون في المسجد، وفيها ثمانية آلاف نهر، منها: نهر معقل منسوب إلى معقل بن يسار من الصحابة، ونهر ابن عمر رضي الله عنهما، وجه عمر بن الخطاب ابنه عبد الله رضي الله عنهما لحفره فنسب إليه، ونهر حسان وهو حسان النبطي صاحب خراج العراق.

أحوال البصرة بعد بنائها

ولم تكن على عهد الراشدين بالمدينة الكبيرة؛ لحداثة نشأتها العربية، وكانت مستوخمة رديئة الهواء والماء، ليست بالخصبة ولا الغنية، حتى اضطر عمر إلى أن ينظر إلى أهلها نظر رحمة، حينما شكوا إليه أمرهم، فقد ذكر البلاذري في فتوح البلدان:

«قدم الأحنف بن قيس على عمر في أهل البصرة، فجعل يسألهم رجلاً رجلاً والأحنف في ناحية البيت» في بتٍ لا يتكلم، فقال له عمر: «أما لك حاجة؟ « قال:

«بلى يا أمير المؤمنين. إن مفاتح الخير بيد الله، إن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفّة، وإنا نزلنا سبخة بشاشة لا يجف نداها ولا ينبت مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج، ومن قبل المغرب الفلاة، فليس لنا زرع ولا ضرع، يأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة لذلك فتربق ولدها كما تربق العنز يخاف بادرة العدو وأكل السبع، فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا». فألحق عمر ذراري أهل البصرة في العطاء، وكتب إلى أبي موسى يأمره أن يحتفر لهم نهراً.

هذه بداية أمر البصرة وقد ظلت على حالها، لم تترقّ منها إلى خير منها، حتى صدرا من أيام الأمويين، ومضت خلافة معاوية ولم ينفرج ضيق أهلها تمام الانفراج، فقد قدم الأحنف أيضاً على معاوية وافداً لأهل البصرة يستعطفه لهم، وكان فيما وصف به أهلها قوله: «أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير مع تتابع من المحول واتصال من الذحول، فالمكثر فيها قد أطرق، والمقل قد أملق، وبلغ منه المخنق».

بداية عهد ازدهار البصرة

وبانقضاء عهد الفتن فيها واستقرار الأمر بمثل زياد وابنه والحجاج، انصرف أهلها لشؤونهم فعكفوا على الزراعة والتجارة، وانتعشوا واستفاض لهم زرع ونخيل وتجارات، فمن ثم عدّت البصرة من أكبر ثغور الإسلام قاطبة.

وقد حفرت فيها أقنية وجداول كثيرة تتشعب عن النهر الأعظم، ووصف الأقدمون كثرتها وصفاً نكاد لا نصدّقه. جاء في مسالك الممالك للإصطخري:

«البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم، وإنما اختطّها المسلمون أيام عمر، ومصّرها عتبة بن غزوان وهي خطط وقبائل كلها. ويحيط بغربيّها البادية، وليس فيها إلا أنهار. وذكر بعض أهل الأخبار أن أنهار البصرة عدت أيام بلال بن أبي بردة فزادت على «120000» نهر تجري فيها الزوارق. وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيام بلال، حتى رأيت كثيراً من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عدداً من الأنهار صغاراً تجري في كلها زواريق صغار، ولكل نهر اسم ينسب إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصب فيها وأشباه ذلك من الأسامي، فجوزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها. وأكثر أبنيتها بالآجر».

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X