ثقافة وأدب
ترصدها حفيدته زكية نعيمة في دراسة نالت عنها درجة الدكتوراه

مكانة المـرأة فـي أدب ميخائيل نعيمـة

المرأة شريكة الرجل في البحث عن المعرفة وتحقيق الخلاص

نظرته للمرأة لم تتبدل رغم تعدد الشخصيات النسائية في أدبه

حضور كثيف للمرأة في إبداعاته التي تجاوزت 30 مؤلفاً

خلا أدبه من أي ملمح من ملامح الغزل الحسي أو الجسدي

الرجل والمرأة جناحا طائر وكِفتا ميزان واحد

موضوع المرأة في أدبه لم يحظَ بدراسات رصينة ووافية حتى اليوم

المرأة عنده وعت دور الحرية المهم في حياة البشر

سبق عصره في قضية المرأة بكل

ما تحمله من أبعاد اجتماعية وتربوية وإنسانية

بقلم – جهاد فاضل:

هذا كتابٌ جميلٌ عن أحد أساتذة الأدب العربيّ المُعاصر ميخائيل نعيمة رفيق جبران خليل جبران في «الرابطة الأدبيّة» في المهجر الأمريكيّ الشمالي، وأمين سرّها، وواضع دستورها. موضوع الكتاب «المرأة في فكر ميخائيل نعيمة»، وقد وضعته حفيدته، كما تذكر في الكتاب، زكية يوسف نعيمة، كأطروحة دكتوراه في معهد الآداب الشرقية بجامعة القديس يوسف في بيروت. والكتاب المدروس دراسة جيّدة والذي نالت المؤلفة درجة الدكتوراه استناداً إليه، يسعى بشكل أساسي لأن يبيّن أن نظرة نعيمة على امتداد مسيرته الأدبيّة لم تعرف تبدلاً. إن تعدّد الشخصيات النسائية في أدبه وتباينها، قد يخدعان القارئ الذي يكتفي بالقراءة السطحية ويؤخذ بظواهر الأمور، في حين أن حقيقة المرأة عند نعيمة واحدة. تكمن الحقيقة الواحدة هذه في كون المرأة شريكة الرجل في البحث عن المعرفة وتحقيق الخلاص وصولاً إلى الأحادية عبر الثنائية. الرجل والمرأة عند نعيمة «جناحا طائر واحد هو البشرية، وكِفّتا ميزان واحد هو النظام السرمديّ، وهي شريكة الرجل في الحياة، وفي بناء العائلة والمجتمع، وفي البحث عن المعرفة وتحقيق الذات. لولاها لما كان الرجل. ولولا الرجل لما كانت المرأة.

هي أمّ الحياة، ومعينة الرجل في البحث عن هُويته، وفي بلوغ المعرفة والخلاص.

حضور كثيف للمرأة

والواقع إن من طالع نتاج نعيمة الذي تجاوز الثلاثين مؤلفاً، يلاحظ حضور المرأة الكثيف في أدبه شعراً ونثراً. نجدها في ديوانه «همس الجفون» وفي الأقاصيص والمسرحيات والروايات مثل: «كان ما كان»، «أكابر»، «أبوبطة»، «هوامش»، «الآباء والبنون»، «أيوب»، «لقاء»، «كتاب مرداد»، «مذكرات الأرقش»، و»اليوم الأخير»، وقد خصها نعيمة بقسط وافر في رسائله وفي المقالات المختلفة الموضوعات التي توزّعت في مؤلفاته الآتية: «المراحل»، «زاد المعاد»، «البيادر»، «صوت العالم»، «النور والديجور»، «في مهب الريح»، و»دروب».وتنبه الباحثة إلى أن موضوع المرأة الذي تدرسه، ينحصر في نتاج نعيمة الأدبي والفكري، وإلى أنها لن تتطرّق في دراستها إلى موضوع المرأة في حياته الشخصية.وتلاحظ أن المرأة في مؤلفات نعيمة ظهرت في جميع مراحل حياتها: طفلة، وشابّة، وكهلة، وعجوزاً، وفي أدوارها المختلفة في العائلة وفي علاقاتها بالرجل. كذلك احتوى أدب نعيمة على نماذج نسائيّة تنتمي إلى بيئات اجتماعية، وإلى خلفيات ثقافية مختلفة. وقد خصّ نعيمة المرأة بحصة مميزة في مقالاته وشعره.

مسيرة نعيمة الأدبية

بدأت مسيرة نعيمة الأدبية عندما كان على مقاعد الدراسة في بولتافا بروسيا، حين كان قد نظم بعض القصائد باللغة الروسية. يذكر نعيمة في كتاب «سبعون»، وهو مسيرة حياته، أن مسيرته الأدبية بدأت مع مقال عنوانه: «فجر الأمل بعد ليل اليأس» الذي نشره في مجلة «الفنون» النيويوركية. وقد صدر المقال باللغة العربية في الرابع من تموز عام 1913.وفي تلك المسيرة الأدبية الطويلة كانت المرأة عنصراً بارزاً في نتاجه.وقد أوصى الأدباء الناشئين في إحدى مقالاته قائلاً: «خذوا مواضيعكم من أنفسكم ومن الناس والأكوان حواليكم. ولا تمسحوا أقلامكم منها إلا من بعد أن تبدو لكم صريحة المعالم مشرّعة الأبواب كي يسهل تناولها حتى الذين هم دونكم مقدرة ومهارة في الغوص إلى الأعماق. وليكن أجركم الأوّل والأعظم تلك البهجة التي يشيعها في الروح شعوركم بأنكم قد خلقتم مخلوقاً جديداً وجميلاً، أكان ذلك المخلوق مقالاً أم قصيدة أم قصّة أم رواية أم كلاماً لا ينساق إلى التبويب ولكنه يترك فيكم وفي القارئ نشوة وعبرة».

وقد طبّق نعيمة هذه الوصية على نفسه. فموضوعاته الأدبية مأخوذة من نفسه ومن الناس والأكوان حولنا. وموضوع المرأة هو أحد الموضوعات التي تناولها في نتاجه الأدبي، بدت صورتها صريحة المعالم حتى أنه صنع منها كائناً جديداً يشارك الرجل في عملية البحث عن الحقيقة والخلاص.إن المتأمّل في أدب نعيمة يندهش ويحار في المواقف المتناقضة التي أدّتها المرأة. فهل من خيط أو نسيج يربط بين هذه الشخصيات النسائية في نتاجه الأدبي؟ وهل من غايةٍ ما سعت المرأة إليها في حياتها؟ هل كانت ذلك الكائن المتلقي، أو تلك الثائرة المتمرّدة؟ هل خضعت لمشيئة الرجل فكانت تابعة له، أو شقّت طريقها بنفسها وأحدثت تغييراً على مستوى الفرد والجماعة؟

علاقة المرأة بالرجل

لو عدنا إلى روايات نعيمة نلاحظ مثلاً أن نجلا في «مذكرات الأرقش» هي العروس المذبوحة من الوريد إلى الوريد على يد عريسها ليلة العرس، وبهاء في «لقاء» هي الصبية المخطوبة التي يُغمى عليها فتقع في غيبوبة طويلة بعد سماع كمنجة ليوناردو. ورؤيا زوجة موسى العسكري في «اليوم الأخير» تركت زوجها وابنها الكسيح وهربت. فما هي يا ترى الأسباب التي دفعت الأرقش إلى ذبح امرأته؟ ولَمِ ذهبت بهاء في غيبوبة طويلة؟ وما دور كل من نجلا وبهاء الغائبتين جسدياً في أحداث الروايتين؟ هل استطاعت المرأة مساعدة شريكها الرجل على تحقيق الحرية وبلوغ الأحديّة؟ وكيف تجلّت هذه المساعدة؟ وكيف كانت مقاربة نعيمة العلاقة بين الرجل والمرأة في شعره ونثره؟وفي «كتاب مرداد» كيف نظر نعيمة إلى علاقة المرأة بالرجل؟ وما هي أبعاد محبتها للرجل؟ وما هو دورها في الخلق وفي الكون؟

وفي مجموعات الأقاصيص: «كان ما كان»، «أكابر»، «أبو بطة»، و»هوامش»، صوّر نعيمة المرأة في كفاحها على الأرض منذ ولادتها وحتى موتها. فما هي الأدوار التي قامت بها المرأة؟

الآباء والبنون

وفي مسرحية «الآباء والبنون» للمرأة دور بارز في الصراع الأبدي بين جيل الآباء وجيل البنين. أما في مسرحية «أيوب» حيث نشهد عذاب أيوب النفسي والجسدي، فنتساءل عن موقف كل من زوجه وابنته منه. إلى أي حدّ أعانته المرأة على تحمّل آلامه؟ هل اختلف موقف بنته عن موقف زوجه؟ وإذ ننتقل إلى «همس الجفون»، ديوان نعيمة الشعري، فإننا نقع على قصائد، للمرأة حصة كبيرة فيها. ومنها مهداة إلى نساء معيّنات.

فما هي طبيعة ذلك الشعر؟ هل المرأة التي تكلم عنها نعيمة في شعره، تشبه المرأة التي صوّرها في أقاصيصه ورواياته ومسرحياته؟ هل من انسجام وتكامل بين النثر والشعر عنده فيما يخصّ موضوع المرأة؟

إن الباحث في أدب نعيمة يلاحظ فكرة أساسية تتردد في كتاباته وهي بحث الإنسان عن الغاية من وجوده. «فغاية الإنسان من وجوده واحدة لا تقبل الشكّ من أي نوع كان. إلا وهي تمزيق دثار الحسّ لتظهر الصورة بتمامها فيرتفع الإنسان إلى ما فوق الخير والشر.

حظي نتاج نعيمة النثري والشعري باهتمام عدد كبير من الباحثين والنقّاد من قبل. غير أن موضوع المرأة، على محوريته وأهميته في أدب الكاتب، لم يحظَ بدراسات أكاديمية رصينة ووافية حتى اليوم، وإنّك تكاد لا تقرأ كتاباً لنعيمة من غير أن تجد للمرأة حصّة فيه، مجموعة مقالات كان الكتاب، أم مجموعة أقاصيص أم رواية أم مسرحية أم شعراً. صحيح أن عدداً من الشخصيات الأنثوية في أدب نعيمة قد حظي ببعض من الدراسة في عددٍ من الكتب، غير أن تلك الدراسات كانت هامشية حيناً، وأحياناً كانت مبحثاً ضمن فصل أو بابٍ ما، وهي لم تقترب البتة من البحث الأكاديميّ الذي يشمل المرأة في كل نتاجه.

معالجة رصينة معمقة

كتاب الدكتورة زكية نعيمة عن المرأة في فكر ميخائيل نعيمة يقع في حوالي أربعمائة صفحة، وهو يعالج موضوعه معالجة رصينة معمّقة. ولأن ما لا يدرك كله، كما تقول مجلة الأحكام العدلية،لا يترك أقله. لذلك سنعمد إلى اختيار فقرات منه تستنتج فيه الباحثة آراء الكاتب الكبير في بعض جوانب المرأة. من ذلك أن على المرأة أن تدرك أن ازدواجها هو مرحلة مؤقتة تسبق الوحدة. وهي حين تعي هذه الحقيقة، يهون عليها أن تتعامل مع أمجاد العالم ومشاكله من تأدية واجبات واحترام حقوق. وهي حين تعمل مع الرجل يداً واحدة وفكراً واحداً، فلابدّ من أن تفلت من حبائل الخير والشر لتشكل مع الرجل ذلك الكائن الجبار الذي يشبه نسراً عظيماً يسبل جناحين متساويين جمالاً وقوة ليشقّ أجواء الوجود إلى حيث المعرفة والقدرة والحرية. إن أمّ الحياة لن تغدو أمّ الموت.

همس الجفون

لقد صوّر نعيمة علاقة المرأة بالرجل المنطلقة من مبدأ الثنائية، والتواقة إلى الوحدة ثانية في إحدى قصائده المنشورة في ديوان «همس الجفون» تحت عنوان إلى M.D.B

ويقول في هذه القصيدة:

أنا السّرّ الّذي استترا

بروحكِ منذ أن خطرا

وأنتِ السّرّ في سرّي

ومعنى العمر في عمري

وأنتِ اليأس في أملي

ومينا الأمن في وجلي

وأنتِ الخَلّ في خمري

فهاتِ يدًا، وهاكِ يدي

على رغَد، على نكدِ

إن المرأة في أدب نعيمة، كما يستنتج من البحث وعت دور الحرية المهمّ في حياة البشر، فجندت قواها النفسية والجسدية لسلوك درب المعرفة، ومع أنها لمحت أحياناً هوة معرفية تفصل بينها وبين شريكها الرجل، فقد جاهدت من أجل معانقة وجه المعرفة وبلوغ الحرية.

تقدير للمرأة

خلا أدب نعيمة شعراً ونثراً من أيّ وصف لجسد المرأة، أو من أيّ كلام على العلاقة، فهو لم ينظر إلى المرأة كائناً مسؤولاً عن تجديد النسل، ولا آلة لإطفاء شهوة الرجل، ولا مدبّرة للمنزل، ولا مربية للأطفال. المرأة في أدبه هي نصف البشرية، وأمّ الحياة. كما خلا شعره العاطفي من أي ملمح من ملامح الغزل الحسيّ، أو الجسديّ. طغى على شعره العالمي الفكر، لا سيما أنه وجد في الفكر الطريق الذي يؤدّي إلى ما يتوق إليه من معرفة. وتميّزت المرأة عنده بالتطرف الشديد فإذا أعطت بذلت كل ذاتها. وإذا أحبّت، جنّدت كل خلية من جسدها، وكل نسمة من روحها في سبيل المحبوب. وإذا ضحت، فإنها تضحي بممتلكاتها ووقتها وعواطفها وفكرها ونفسها من دون أي تردّد. وإذا ثارت، فلا تتراجع حتى تحقيق النصر. وإذا يئست، فتتداوى بالموت خلاصاً.

معرفة الإنسان نفسه

وهناك فكرة محورية تتردّد في نتاج نعيمة كله، هي معرفة الإنسان نفسه والغاية من وجوده حين يصل الإنسان إلى تلك المعرفة المطلقة يحقق الخلاص، وقد سعت المرأة عند نعيمة للسير في طريق المعرفة المؤدّية إلى الخلاص، فنراها منغمسة في واقعها المادي، في حين تعي في الوقت نفسه أن عليها أن تسلك درباً صعبة لتنطلق في اللامحدود المُطلق، وتتحرّر من عبودية الآنا المحدودة. وهي بذلك سبقت الرجل فتعلمت بالصمت التعمق في أسرار الوجود، وانتصرت بالتأمّل على الثنائيات والأضداد،وأعانت شريكها على اجتياز امتحان الثنائية.

آمن نعيمة بالإنسان رجلاً وامرأة، ورأى في المرأة عظمة مميّزة. فهي ليست أمّ الحياة فحسب، وليست عظيمة بأعمالها وأفعالها ولكن عظمتها تكمن في مقدرتها على المحبة وعلى التأثير في شريكها الرجل في البحث عن المعرفة الكاملة.

نعيمة سبق عصره

وتخلص الباحثة إلى القول إن نعيمة سبق عصره بأشواط طويلة فيما يخصّ موضوع المرأة بكل ما يحمله من أبعاد اجتماعية وتربوية وإنسانية ومواقفه هذه تجاه المرأة لم تتغيّر مع الزمان، بل بقيت ثابتة في نتاجه الأدبي الذي بدأ عام ١٩١٣ واستمرّ حتى آخر لحظة من حياته في العام ١٩٨٨، أي إلى ما قبل ثلاثين عاماً من اليوم.هذه نماذج من معالجة الدكتورة زكية نعيمة لموضوع المرأة في أدب جدّها الأديب الكبير الراحل ميخائيل نعيمة، والمُعالجة دؤوبة وجدية ومعمقة في إطار أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه وقد نالتها بدرجة مشرفة.

ولكن ما يلاحظه قارئ هذه الدراسة هو أنّ الباحثة التزمت جانب الشرح دون أن تتعداه إلى النقد والمقارنة أو إبداء الملاحظات على الأقلّ، إن كل ما قاله نعيمة في أدبه، شعراً ونثراً في موضوع المرأة هو موضوع تقدير تام منها وقد شرحته شرحاً وافياً دون أن تشير إلى منابعه الروحية ومصادره الثقافة الأجنبية، ودون أن تنتقده البتة. هذا مع الإشارة إلى أن نعيمة درس في روسيا القيصرية، ونهل الكثير من الفلسفات الغنوصية التي كانت واسعة النفوذ في زمانه والتي تسللت إلى أدبه وأدب شريكه في الرابطة القلمية جبران خليل جبران، وقد استمرّ نعيمة ينهل من هذه الفلسفات طيلة حياته، ويكرّر أفكارها في أدبه بلا كلل إلى أن توفي وقد كان جديراً بهذه الباحثة القديرة أن تعرج على هذه المراجع والمصادر والينابيع بنزاهة وحيادية وموضوعية كما يفعل الباحثون عادة، ولكنها أثرت على ذلك، عملية الشرح والورع تجاه إرث نعيمة، وكأن الموضوعية وقولة الحق من شأنهما الإساءة إلى هذا الإرث لا رفده بمدد نقدي وثقافي، كل فكر هو بحاجة ماسّة إليه. ولكن لا شك أن ما فعلته في دراستها يؤلف عملاً أكاديمياً جيداً يمهد الطريق لدراسة نقدية لاحقة سواء منها أو من سواها من الباحثين.

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X