
بقلم : توجان فيصل (كاتبة أردنية) ..
قبل عقدين اعترف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP بفشل برامجه في تقوية وحتى تحسين ظروف معيشة النساء والأطفال في الدول التي أقامت بها مشاريعها على مدى عقود. والمفروض أن وضع النساء والأطفال هو المؤشر الرئيس على حالة التنمية بكل تفرّعاتها، من القاعدة للقمة، بحيثيات لا يفهمها الغريب الهابط بالبراشوت (كما وصفت لي صحفية آسيوية التقارير التي تكتب عن بلادها)، وحتماً لا يتلمّسها بل ولا يعنى بها ابتداءً غالبية من يصنّفون كخبراء محليين تعتمدهم المنظمات لدولية لتشخيص حال بلادهم وشعوبهم، وتوكل لهم كتابة التقارير التي تعتمد في وضع البرامج الممولة من تلك المنظمات.
فهؤلاء «الخبراء» المحليون، الذين يتقنون لغة أجنبية ويعرفون كيفية كتابة التقارير الدولية التي أصبح لها شكل صارم، ويجيدون توظيف المصطلحات المعتمدة دولياً.. هؤلاء تأهلوا شكلاً لدخول عطاءات «التقارير» و»الخبرة» في المشاريع الممولة من جهات دولية أو من دول غربية، لكونهم باتوا من الحلقة الحاكمة المتنفذة. والحلقة الحاكمة والمتنفذة في الدول «العالمثالية» فاسدة في غالبيتها. وهذا الفساد هو السبب الرئيس لغياب التنمية التي تقول المنظمات الدولية أنها تعمل لإحداثها، وهذا كله على افتراض أن هدف المشاريع الممولة دولياً هو تنمية المجتمعات المحلية. وهذا يعيدنا لموضوع اللامركزية في الأردن والذي تبدّى فشله للجميع بما يصل لاعتراف الدولة، وذات من قيل إنهم فازوا بانتخابات «اللامركزية» بأنهم لا دور لهم في ذات قانون «اللامركزية». وما وعد به الناخبون حقيقة هو أن يُصبح المنتخب للمجلس المركزي «واصلا» (تعبير أردني يعني أنه يتصل بالمسؤولين بما يمكنه من «التوسط» لدى الآخرين لتمرير مصالح فردية).
و»الواسطة» هي البرنامج الأوحد لغالبية المترشّحين لمناصب، «يقال» إنها تأتي بالانتخاب من عضوية ورئاسة «بعض» المجالس البلدية، وصولاً للنيابة التي وصل تزويرها لدرجة أن مدير مخابرات جرت في عهده، قبل بضع سنوات، انتخابات نيابية. وحين عُزل عُيّن في «مجلس الأعيان» (الغرفة التشريعية التي يعيّن الملك أعضاءها) .. باهى في تصريح للصحافة بأنه هو من «عيّن نصف أعضاء مجلس النواب»! ولم يُعاقب أو حتى يُعزل نتيجة هذا الاعتراف المُجرّم لصاحبه سياسياً وقانونياً، وكلاهما يُسقط أهليته لتولي أي منصب، فكيف بمنصب مشرّع !!.
فعن أي دور لمجالس اللامركزية التي تنتخب هكذا تتحدّث الجهات الدولية؟؟، ولماذا «هلعها» حد طلب ضح دماء في جسم اللامركزية الميّت بتعديل قانونها بما يُعطي من يقال إنهم «منتخبون» صلاحيات ومهام لم ترد في قانون انتخابيهم ولا في عناوين حملاتهم التي «يفترض» أنهم انتخبوا لتوليها، لا لتولي غيرها مما تريده جهات خارجية؟!.
لا يتسع حيّز المقال لبيان حقيقة ما أعيد تحت مسمى اللامركزية، فقد لزمني لشرحه مقالان مطولان على موقع الجزيرة نت تناوله في صيغته المسمّاة «اللامركزية» مرة و»الأقاليم» مرة أخرى. ويكفي هنا أن أذكّر بورده كمشروع رئيس لحكومة عبد السلام المجالي الذاهبة لـ «وادي عربة». وكنت حينها انتخبت نائبة (رغم التزوير)، ويفهم سبب التزوير من كوني وحدي من تصدّى في جلسات الثقة بحكومة المجالي للمشروع الذي «يُفدرل» بلداً صغيراً كالأردن ويجعل وزارة الداخلية (المتهمة لحينه بممارسة الحكم العرفي) التي ربطت بها مجالس اللامركزية وسلمت عنان قرارتها، «وزارة فوق كل الوزارات» وحتى فوق الحكومة!
وهو ما يمكن التأكد منه بالرجوع للصحافة الأردنية وما كتبه كبار كتابها كالمرحوم الدكتور فهد الفانك والأستاذ طاهر العدوان، والتي رحّبت بتلك المعارضة اليتيمة.. ولكن لخطورة المشروع، وبخاصة لاهتمام الإعلام العربي والعالمي بما تفعله أول امرأة تنتخب لبرلمان عربي، ألزم بسحبه بصمت لحين جرى تزوير كاسح غير مسبوق للانتخابات التالية عام 1997 (معترف به من وزير الداخلية حينها أمام شهود محليين ووفد وزاري يمني زائر والاعتراف موثق في كتاب للدبلوماسي والكاتب فؤاد البطاينة).. فأعادت ذات حكومة المجالي إحياء المشروع من فورها. ما ألزمني بالتصدي ثانية له بصراحة أكثر عبر مقالة نشرتها «القدس العربي»، ما أتاح إعادة نشرها محلياً، وحتم تجميد المشروع ثانية.
ولكن بعد رحيل الملك حسين، عاد عرّابو المشروع لتسويقه تحت عنوان آخر هو «مشروع الأقاليم»، ثم أعيد ترويجه ثانية تحت الاسم الأصل «اللامركزية».. ومؤخراً جرت انتخابات «مسلوقة» بما يؤشر على استعجال أسقط المشروع وأرعب «رعاة دوليين له»، فاستنفروا يريدون الآن، ليس فقط توصيف صلاحيات لمجالس بعد انتخابها، بل ويريدون ضخ دماء في جسم وُلد ميتاً باعترافهم!. لا أصدّق أن شخوصاً طارئين خطأ ككوشنر وترامب اخترعوا «صفقة القرن» الحالية.. ولكنني أعرف بالخبرة والتفاصيل أن هنالك صفقة تتكرّر منذ القرن الماضي. ولهذا تُنحر كل الانتخابات في بلدي، ثم يجري نقل دم لأجساد ميّتة بما يلزم لتبقى بصمة اليد صالحة لتذييل سلاسل الصفقة.
ولكن الأهم هو ما بعد أخذ البصمة، أو الحاجة لتغييرها أو تجديدها، والذي نبّهت له في مقالتي السابقة في نصيحة مجانية أشك في كون المعنيين بها فهموها!.