المكان أحد عناصر بناء القصّة، فيُهيِّئ القاصّ لقصّته مكانا ليكون مسرح أحداثه ومهبط شخوص قصّته، فلا يمكن بناء القصة دون المكان، فيحضر بشكل أساسيّ سواء أكان مكانا حقيقيّا أو مُتخيّلا، فيُشيّد الكاتب المكان ويتصرّف فيه وفق رؤيته ومناسبته لما يريد أن يقصّه.
فتحويل فكرة القصّة المولودة في ذهن الكاتب تلزمه بخلق مكان لها، وقد يصغر ويكبر ويكون مغلقا أو مفتوحا، وقد يتعدّد؛ فينتقل الكاتب بشخوص قصّته من بيئتهم إلى مكان في بيئة أخرى مغايرة لها، كما لدى كلثم جبر في قصّة “الموت مرّتين”، حيث المكان في فينيسيا التي جرّدت شخوص قصّتها لبساهم التقليديّ، “توسّدتُ كتفكَ وأنتَ تداعب جديلتي السوداء الملقاة فوق ظهري وتبتسم:
– أين عباءتكِ؟
ابتسمتُ وأنا أنهمر ضحكا في عينيكَ:
– وأنتَ أين غترتكَ وعقالكَ وثوبكَ الأبيض
وقد يكون المكان مغلقا تجري أحداثه في غرفة أو سجن أو مكتب، كما لدى محمّد حسن الكواريّ في قصّته “أبدا لم تكن هي”، حيث المكان مكتب التحقيق، وقد يكون المكان بضعة أشبار كحضن الجدّة في قصّة “الحضن البارد” لحسن رشيد، إلى جانب الأمكنة الأخرى في قصّته.
ولضرورة المكان قد يبدأ الكاتب بتهيئة القارئ وإدخاله للحدث من خلال بسط المكان له وجرّه إليه بالوصف منذ البداية، كما لدى لولوة خلف البنعلي في قصّة “في قريتنا ذئاب”، حيث تفتح لك نافذة للولوج إلى وقائع القصّة: “تطلّ الشمس من نافذتها السماويّة على القرية الصغيرة”، فيدخل القارئ إلى مسرح الحدث؛ فيدخل القرية في قراءته. وأيضا لدى فاطمة خلفان الكواريّ في قصّتها “بداية أخرى”، حيث تحجز للقارئ تذكرة سفر في الطائرة مكان القصّة منذ البداية؛ فيسافر معها في قراءته، “من أعلى جسم ضخم يتمايل.. خطوط على سطح الحياة.. ارتفاع شاهق… أزيز الطائرة يربك استرخائي”.
فالكاتب قد يطأ بقدمك المكانَ من الكلمات الأولى من قصّته، كما في قصّة “يوم العيد” لجمال فايز السعيد، فينطلق بك في فضاءات قصّته: “لأول مرة يخرج من بيته، ولا ينظر للنخلة التي غرسها جده الأول”. وقد يمتدّ الزمان ويعود الكاتب بأبطال قصّته إلى نفس المكان بعد سنين، كما في قصّة “الصمت الأوّل” لطرفة ناصر النعيميّ، حيث كانت المدرسة التي درسنَ بها ثلاث فتيات، وعُدْنَ إليها معلّمات بعد سنين “كبر صمتهنَّ كصديق رابع، وتقاسم معهنَّ غرفة معلّمات الصفّ الأوّل في المدرسة ذاتها حيث عدنا إليها معلّمات”.
وقد يمتدّ المكان، فيكون مفتوحا مع الأفق وزرقة البحر، البحر المرتبط بالإنسان القطريّ الذي يحيط به ويغوص فيه، فتبقى الرابطة معه وإن ابتلع الضحايا، كما في قصّة “أنين منصور” لظافر الهاجريّ، حيث وثّقت الفتاة علاقتها بالبحر عدوّها الغادر الذي ابتلع منصور، فتأتي كلّ أربعاء تتأمّل البحر وتنصت لأنين منصور الذي اختفى هنا متأمّلة عودته، حيث بقيت على صلة بمكان اختفاء منصور رغم السنين، فهنا المكان مُثير وجدانيّ وصلة وفاء بين من جمعهم أو فرّقهم المكان.
ومن خلال القصص المقروءة يتّضح الإتّقان وحسن استخدام المكان، والقدرة على إدخال القارئ إلى مسرح القصّة، مع الإجادة في توظيف المكان للتعبير عن الحالة الوجدانيّة التي تربط الإنسان بذكرياته التي تحتضنها الأماكن وتُثيرها. ويتّضح جليّا ما للمكان من سُلطة على قلم الكاتب، حيث يفرض لغة مناسبة وأحداثا ملائمة له، فإن كان المكان مكتب تحقيق تظهر لغة مناسبة له وتُصاغ أحداث متوافقة معه، فتلزم الكاتب أن يُلبس قلمه رداء المكان الذي يضع فيه أبطاله، بل يفرض على أبطاله أحيانا أن يغيّروا رداءهم.
intesar_alsaif@