ثقافة وأدب
عالم عربي يعتبر عبقرية استثنائية

أثر مقدمة ابن خلدون في العالم الإسلامي

سيرته تجعلنا نتتبع الأحداث عبر توصيفها في السياق الاجتماعي والسياسي لعصره

الحضارة لا يمكن تصوّرها دون مجتمع والعكس صحيح

يركز على الأسس الاجتماعية والمعرفية لمجتمعه وعصره

في «المقدمة» يؤسس علماً غير مسبوق يسمّيه «العمران البشري»

علم الاجتماع البشري يدين بالفضل إلى القرآن والعلوم الإسلامية

يعتبر السياسة محرّك الحضارة.. والسلطة المفهوم الأهم في علم العمران

بقلم – جهاد فاضل:

ابن خلدون، الإنسان ومنظر الحضارة”، كتاب في منتهى الأهمية عن ابن خلدون كتبه الباحث المغربي الدكتور عبدالسلام شدّادي ونقلته إلى العربيّة الدكتورة حنان قصّاب حسن وصدر حديثاً عن “المكتبة الشرقية” في بيروت، ويُعتبر من أجود ما كُتب بالعربيّة والأجنبيّة عن هذا العالم العربيّ الكبير الذي يحتلّ موقعاً مُتميزاً في الثقافة العربيّة والإسلاميّة، وربما في ثقافة ما قبل الحداثة غير الغربية كلها. هناك من يعتبر ابن خلدون عبقرية استثنائيّة، وهناك من يراه معجزة، وفي كل الأحوال يظلّ ظاهرة إعجازيّة بالمعنى الإيجابيّ للكلمة.

بعد إعادة اكتشاف ابن خلدون قبل ما يُقارب قرنين من الزمن، تميزت العقود الأربعة الأخيرة بأعمال هامة استطاعت بالتدريج أن تُعيد تشكيل صورة أقلّ مثاليّة وأقل ابتساراً عنه وعن مُؤَلَّفه، وأكثر قرباً من الواقع التاريخي. وفي الوقت ذاته، تمّ تحديد وتقدير مدى مساهمته في مجال الأنتروبولوجيا بشكل أفضل. وكتاب عبدالسلام شدّادي هذا حول مؤلَّف كتاب “العبر” يندرج في اتجاه المراجعة هذا.

جوانب السيرة الذاتية

السيرة الذاتية لابن خلدون تعرض وجهة النظر التي يكشفها للعموم عن حياته في سن النضج بعد تجربته السياسيّة والاجتماعيّة الطويلة في المغرب. وهي بما تتميز به من اختزال وصحة لا يتطرّق إليها الشك، تبدو لنا كصورة أُعيد تشكيلها، وهي الصورة التي أراد أن يتركها للأجيال اللاحقة. ولهذا السبب بالذات فإنها تكشف عن جانب من شخصيته. بالنسبة للمراحل الأقدم من تاريخه العائلي، يستند ابن خلدون على المؤرخين الأندلسيين الكبيرين ابن عبدالبر وابن حزم. أما بالنسبة للمعلومات الأحدث، فإنه يستخدم مصادر عائليّة شفهيّة على الأغلب لأنه لا يذكر أية سجلات. أما المصادر الإسلامية المعاصرة مثل الملاحظات حول السيرة التي قدّمها عنه في المغرب ابن الخطيب وابن الأحمر، وفي مصر المقريزي وابن حجر وابن تغري البردي والسخاوي، فلا قيمة لها سوى في الإضاءة التي تقدمها حول بعض ملامح شخصيته وحياته العامّة.

تلك هي إذن جميع المصادر المتاحة من أجل أن نرسم خطوط حياة إحدى أروع الشخصيات في الثقافة العربية الإسلاميّة. وهي ليست بالطبع كافية لكي نبني من خلالها سيرة بالمعنى الحديث للكلمة، لكنها تسمح لنا رغم كل شيء أن نتتبع الأحداث الأساسية في حياته من خلال توضيعها في السياق الاجتماعي والسياسي لعصره.

علم العمران البشري

في “المقدمة”، يؤسس ابن خلدون علماً جديداً لم يسبق إليه يسمّيه “علم العمران البشري”، وهو يشرح الطابع العلمي لطريقته في الديباجة التي تفتتح كتاب العبر.

فهو في هذه الديباجة يدعم فكرة أن التاريخ يجب أن يُفهم بطريقتين مختلفتين: في المستوى الأول يتطرّق التاريخ، في ظاهره، إلى سرد الأحداث. وفي مستوى آخر، تكون مهمة التاريخ، في باطنه، “نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق”. وهو ينظر لهذين الشكلين من التاريخ على أنهما مستقلان، ولا ينفصل واحدهما عن الآخر مثل وجهين لعملة واحدة، وطموح ابن خلدون حين صاغ كتاب العبر هو أن ينتج مؤلفاً يترابط فيه البعدان السردي والنظريّ.

ينظر ابن خلدون إلى السياسة على أنها محرّك الحضارة، وبمعنى ما محرّك التاريخ. وإن كان المجتمع في الأساس يستطيع أن يفلت من الفوضى، وبالتالي يؤمّن بقاء الجنس البشري بفضل السلطة، فإنه في مدار السلطة أيضاً يتم تنظيم المجتمع وتحديد مصير نموذجي الحضارة، الزراعي والعمراني. وهكذا تبدو السلطة المفهوم الأهم في علم العمران، والمحور الذي تتمفصل حوله التحليلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المقدّمة. وكذلك الرواية التاريخيّة في كتاب العبر. يتم التعبير عن ذلك بوضوح في هذه الصيغة ذات النفس الأرسطي في ظاهرها: “الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة”.

ذلك يعني أن مقاربة ابن خلدون للحضارة هي مقاربة شموليّة. فالملامح التي يفصلها: إنتاج وسائل العيش، السلطة والدولة، التقنيات والصناعة، تشكل في نظره واقعاً فريداً تسيطر عليه أحد هذه الملامح، وهي السلطة.

جذور الأمة العربية

التاريخ الاجتماعي السياسي الذي يعرضه ابن خلدون في كتاب العبر هو تاريخ العرب والبربر، وأيضاً تاريخ الأمم التي كانت معاصرة لهم، وتتم دراسة الأمة العربية منذ جذورها لحقبها الأربع، ولفروعها المتنوّعة وقبائلها التي كانت لها مساهمة في السلطة في كل واحدة من هذه الأجيال. أما تقديم البربر فيتم بطريقة مختلفة نوعاً ما: ففي البداية يتم تقسيمهم إلى عائلتين كبيرتين هما البرانس والبتر، ثم في داخل كل واحدة من هاتين العائلتين، هناك طبقات مختلفة يتم تمييزها على المستوى الزمني. أما بالنسبة للأمم الأخرى، فإن ابن خلدون يجهد لتطبيق الخطاطة نفسها حسب المعلومات التي تتوفر له.

يطرح الباحث المغربي في كتابه سؤالاً عما إذا كان ابن خلدون قد نجح في أن يلقي على مجتمعه هو “نظرة أنتروبولوجية”، وهو يميل لأن تكون إجابته مراوغة لأن علم ابن خلدون هو بحّد ذاته ملتبس. فلأسباب موضوعيّة وخارجة عن إرادته، يجد الباحث أن ابن خلدون يعود بشكل دائم إلى الأسس الاجتماعيّة والأيديولوجية والمعرفيّة لمجتمعه ولعصره، لكنه يظلّ على الحدّ تقريباً في مستوى المعلومات. بالإضافة لذلك، ورغم أنه يجبر نفسه على الصعيد المنهجي أن يقدّم خطاباً كونياً حول الإنسان والمجتمع كما كان يراقبهما أو يفسّرهما عبر المعارف التي كانت في متناوله، فإنه لم يستطع أن يمنع نفسه عن حقنها برؤيته الخاصّة وأن يبثّ فيها منطقاً وتماسكاً يتوافقان مع مفهومه الخاص عن النظام الإنساني وعن مشاغل مجتمعه وعصره.

الروحية العامة للمقدمة

ويضيف الباحث: لكي نعطي فكرة عن الروحية العامة لمقدمة ابن خلدون، وعن جمالها العظيم وأسرار بنائها، يمكن أن نقارنها بالمساجد الكبيرة التي تمّ تشييدها خلال القرون الأولى للإسلام، مثل المسجد الأموي في دمشق أو المسجد الكبير في قرطبة. فما يلفت الانتباه في هذه المشيدات هو التناقض ما بين الفرادة التي تتبدّى منها كمجموعة معماريّة، والطابع التجميعي لتقنيات بنائها وموادها وتزييناتها. فمسجد قرطبة الكبير، وهو أحد أجمل وأوسع المساجد في العالم الإسلامي في القرون الوسطى، قد شُيّد فوق موقع كنيسة قديمة هي كنيسة سان فانسان التي يمكن أن يكون المسلمون قد تقاسموها مع المسيحيين في البداية. وعلى قاعدة المخطط المسمى “عربي” الذي دشنه في القرن الثامن الخليفة الأموي الوليد، تمّ تنفيذ تقنيات موروثة عن التقاليد السورية والبيزنطية وربما الرومانية، كما التقاليد المحلية الفيسيقوطية. وأحد أهم أعمال التوسيع الفخمة التي نفذها الحكم الثاني في نهاية القرن العاشر تقريباً كانت بإدارة معماري من أصل سلافي. وعندما انتهى تشييد البناء، كان يعطي انطباعاً من الجمال والانسجام فريداً من نوعه.

وبرأي الباحث، إن “علم الاجتماع البشري” لدى ابن خلدون يبدو أنه قد شُيّد ضمن الفكر نفسه، وحسب المبادئ نفسها. فهو عمل في أساسه تجميعي، ومع ذلك يبثّ انطباعاً شمولياً بالفرادة والانسجام وحيدين من نوعهما. فهو يدين في نغمته العامّة وفي لونه الإجمالي إلى القرآن والعلوم الدينيّة الإسلاميّة بعد أن أُعيد تفسيرها على ضوء العقل، لكن هيكله يتأسس بكامله على المفهوم الأرسطي عن العلم، وعلى مناهجه في الاستدلال. والعلوم الفلسفية مثل المنطق والجغرافيا الطبيعية والبيولوجيا والبسيكولوجيا تشكل أعمدته النظريّة، في حين أنه يستمّد مواده الملموسة من روايات تدوين التاريخ العربيّة، أي من الأدب، وكذلك من الملاحظة الشخصيّة.

لا نية لإعادة تأسيس نظام العالم

وعنده أنه لم تكن لدى ابن خلدون النيّة لإعادة تأسيس نظام العالم أو النظام السياسي والاجتماعي، كما ستحاول أن تفعله بشكل صريح أو ضمني علوم السياسة والإثنولوجيا / الأنتروبولوجيا الأوروبية اعتباراً من القرن السادس عشر، إذ لم يكن لديه في الأساس أي شيء ضدّ نظام العالم الموجود. كان يريد بكل بساطة أن يشرحه وأن يجعل ميكانيزمات عمله شفافة واضحة. فالإنسان، المجتمع، الحضارة، هي بالنسبة لابن خلدون في آن معاً مفاهيم ووقائع لا يمكن فصلها عن بعضها. ومفهوم الإنسان لديه يستدعي في جذره وبالضرورة مفهوم الحضارة والمجتمع. فبقاع الأرض المسكونة التي، لأسباب مناخية (كالبرد الشديد أو الحرّ) تخرج حسب ما يقول عن نطاق الحضارة، وتضمّ كائنات تحت / البشرية، لا تشكل مجتمعات حقيقيّة. من جانب آخر يظنّ بأن المجتمع والحضارة هي ظواهر بشريّة حصراً نظراً لأنه لدى الحيوانات التي نقول عنها إنها “اجتماعيّة” مثل النحل، يكون الاجتماع نتيجة الغريزة وليس الفكر. وأخيراً فإن الحضارة بالنسبة له لا يمكن تصوّرها دون مجتمع، والعكس صحيح. فالحضارة تعبير عن الطريقة التي ينتظم بها البشر للبقاء على قيد الحياة، ولا يمكن لها أن توحد إن لم يتجمّع البشر ويتعاونوا فيما بينهم.

استناداً إلى هذا البحث القيم لعبدالسلام شدّادي الذي يضيف جديداً وثميناً إلى المكتبة الخلدونية العربية والأجنبية، يبدو أن مقدمة ابن خلدون تقوّض القانون التاريخي السوسيولوجي الذي يفيد بأن كل نتاج ثقافي يجد ولو جزئياً مبرّره النهائي وتفسيره في مرحلة تاريخيّة ومجتمع ووسط اجتماعي وثقافي محدّد. فالدراسة الدقيقة المتأنيّة لكتابات العصر الذي شهدت فيه النور، وللعصور التالية حتى بداية القرن العشرين، تبيّن أن هذه المقدمة لم تُدمج في معرفة وثقافة العالم الإسلامي، ولم يأتِ ما يكمل ما وصلت إليه كما تمنّى ابن خلدون نفسه.

القيمة الحقيقية للمقدمة

على النقيض من هذا الوضع غير المعتاد، كان استقبالها غاية في الإيجابية ضمن أوساط المؤرخين وعلماء الاجتماع، وبشكل خاص علماء الأنتروبولوجيا الحديثة منذ بداية القرن التاسع عشر، إذ لم يُحكم على المقدمة بقيمتها الحقيقيّة بالعلاقة مع زمنها وحسب، وإنما تمّ اعتناق النظريات والمفاهيم التي تنتشر فيها كما هي فعلياً. وقام كثير من الباحثين بتوضيعها واستثمارها في المستوى الإبيستمولوجي والمنهجي نفسه الذي تتوضع فيه نظريات وأفكار المؤرخين وعلماء السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا الحديثين والمعاصرين.

هذه المفارقة الأولى ظاهريّة وحسب. فلا شك في أن علم الحضارة الذي اخترعه ابن خلدون لم يندمج في الثقافة الإسلاميّة لا في زمنه ولا في ما بعد.

لكن هل كان من الضروري أن يتمّ ذلك؟ إن كونها لم تُرفض ولا طالها الهجوم يثبت أنها لم تكن تحتوي في نظر الثقافة التي ولدت فيها على أي شيء مغلوط أو صادم. والواقع أنها عكست بأمانة الواقع الاجتماعي والتاريخي، وبالقدر نفسه الهموم العلميّة والدينيّة لعصرها. ربما تمّ ذلك بأمانة ودقة زائدة عن الحد، دون موقف إيديولوجي واضح، ودون خوض معركة لصالح حقيقة ضد حقيقة أخرى. وموضوعها، وهو دراسة القوانين التي تحكم المجتمع وميكانيزمات تطوّر الحضارة، وعملية تشكل وأفول الدول، وأنماط النشاطات الاقتصادية والثقافية وطرق عملها، أي كل ما نسميه اليوم الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، لم يشكل أي تحدٍ بالنسبة لمجتمع ابن خلدون. كان يمكن لهذا المجتمع أن يتعرّف على نفسه في الصورة التي عكستها عنه المقدمة، لكنه لم يجد في ذلك أية فائدة، بل لعله شعر ببعض الحرج من جراء ذلك.

نتاج عبقرية استثنائية

على أن كون المقدمة قد استُقبلت ببرود وعدم اكتراث لا يعني أنها لم تكن نتاجاً خالصاً لثقافة عصرها. وهي في الواقع ثقافة ثلاثية فلسفية وفقهية/ دينية وتاريخية. لكنها حتماً أكثر من ذلك. فمن خلال المعلومات الواسعة التي تعالجها، وعبر منهجها، والعرض القيّم الذي نجده فيها، والإشكاليات التاريخية والأنتروبولوجية التي تطرحها، تظلّ دون أدنى شك نتاج عبقرية استثنائية.

ثم إن أي مؤرخ أو عالم انتروبولوجيا يعمل على المجتمعات الإسلامية الحاضرة أو الماضية سيعترف دون عقد ودون أية مشكلة بأنه يستخدم مفاهيم ونظريات ابن خلدون. مع ذلك هناك في الواقع قسم كامل من المقدمة لم يُستثمر كما يجب من حيث إن المقاربة التي تمت لها هي غالباً مقاربة جزئيّة ومبعثرة وكثيرة الالتصاق بالتفاصيل، ونادراً ما ترتفع إلى مستوى الرؤية الشموليّة.

خطر الانتقاء

يطرح الباحث في خاتمة بحثه الأسئلة التالية: ما الذي تعنيه القدرة على استخدام ابن خلدون اليوم كما نستخدم أي عالم أنتروبولوجيا أو مؤرخ معاصر؟ هل يجب أن نعيد مرة أخرى ودون أي إجراء آخر هذا التميّز العظيم لعبقريته وحدها؟

ويجيب: دون أن نقلل من الأهمية التي ما زالت تلعبها نظريات ابن خلدون وطروحاته وأفكاره الصائبة، والتي تعود دون شك إلى عبقريته الخاصّة، من الضروري أن نؤكّد على خطر الاستغلال الذي يمكن أن ينجم عن انتقاء ما يبدو لنا صائباً في مؤلف المؤرخ المغربي، مع إهمال الباقي.

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X