موسيقى الشعر وتطوير القصيدة عند جماعة المهجر
الباحث أخضع أعمال 15 شاعراً مهجرياً للدراسة الوافية
هل كان لشعراء المهجر وعي نقدي بتجديدهم في الأوزان؟
التمرد الشعري بدأ منذ مطلع القرن العشرين في الوطن العربي أو المهاجر
علوم اللغة والنقد الأدبي ساهما في الاهتمام بدراسة موسيقى الشعر
شعراء المهجر تجرأوا على أوزان الخليل وثاروا على نظام الشطرين
![](https://assets.raya.com/wp-content/uploads/2021/05/11193502/322CD720-6704-4037-A251-9D0122A74AD7.gif)
حركة التجديد المهجري مهدت لنشأة الشعر الحر
أحد الشعراء عبّر عن المنحى التجديدي بقوله: «آن يا شعر أن تفك قيوداً»
بقلم – جهاد فاضل: كتاب “موسيقى الشعر عند جماعة المهجر” للباحث الدكتور كامل محمود جمعة الأستاذ بكلية الآداب ببني سويف يشي عنوانه بمضمونه والمضمون قلما عولج في السابق على أهميته ذلك أن لجماعة المهجر، سواء شعراء المهجر الشمالي أو جماعة المهجر الجنوبي فضلاً كبيراً في تطور القصيدة العربية وتحديثها، فكثيراً ما تجرأوا على أوزان الخليل التقليدية وثاروا على نظام الشطرين وجددوا في موسيقى الشعر، تدفعهم إلى ذلك رغبتهم في أن تكون للعربي الجديد قصيدته أو قصائده تماماً كما كانت للعربي القديم قصيدته، وقد بدأت ملامح هذا التمرد الشعري منذ بدايات القرن العشرين سواء في الوطن العربي أو في المهاجر الأمريكية لدى كثيرين. وقد عبّر أحد الشعراء عن هذا المنحى التجديدي بقوله :”آن يا شعر أن تفك قيوداً”.
موسيقى الشعر والبحث العلمي
ومع تزايد التمرد الشعري والنضج النسبي لحركة البحث في مجال علوم اللغة الحديثة والنقد الأدبي تبلورت حركة واضحة للاهتمام بدراسة موسيقى الشعر العربي من منظور جديد مستفيد من التطور العلمي في هذين المجالين، وبخاصة علوم الأصوات المختلفة وقد أسس لهذه الحركة محمد مندور (١٩٤٦) من ناحية، وإبراهيم أنيس (١٩٤٩) من ناحية أخرى ثم توالت الأجيال لتُنضج هذا التأسيس وتجعل منه تياراً واسعاً نجح في تحجيم منظور العروض التقليدي الذي كان يكتفي بالبحث عن صحة وزن القصيدة (أو رويّها) من فساده، وأصبحنا نمتلك وعياً واضحاً بأن العروض الخليلي ليس مقدساً، بل وليس كافياً لفهم الظاهرة الإيقاعية في الشعر العربي سواء قديمة أو حديثة وأن علينا أن نبحث عن منهج جديد أكثر قدرة على هذا الفهم وعلى دراسة عناصر الإيقاع من ناحية وعلى إدراك ضرورته الفنية أي وظيفته في الشعر عامةً وفي بناء القصيدة، خاصة لتحقيق دلالة لا يستطيع غير الإيقاع أن يحققها.
في إطار هذا الفهم يأتي بحث الدكتور كامل محمود جمعة عن موسيقى الشعر عند شعراء المهجر فرغم أن الباحث مؤمن بالعروض الخليلي إيماناً راسخاً فإنه ليس ذلك العروضي القديم بل رأى الضرورة التي تحتم عليه إضافة عناصر جديدة في الفهم والإدراك والتحليل لعناصر موسيقى الشعر، وكانت هذه الضرورة نابعة من أمرين: أولهما ذاتي خاص بالأمانة العلمية والإخلاص البحثي لدى الباحث، والثاني موضوعي متعلق بخصوصية شعراء المهجر الذين كانوا من أهم المتمردين في مقولاتهم النظرية وفي شعرهم على العروض الخليلي منذ بدايات القرن العشرين وقدموا في أشعارهم نماذج تجديدية عرفها التراث العربي على استحياء، كما عرفوها من الشعر الأوروبي والأمريكي الذي عاينوه.
شعراء المهجر والتجديد
الكتاب لا يعمل على تطوير المنهج الجديد في دراسة موسيقى الشعر، بل يختار أيضاً منطقة خصبة للاختبار إلى أي مدى كان شعراء المهجر مجددين فعلاً في أشعارهم كما كانوا في مقولاتهم النظرية.
نجح الباحث في تقديم إجابة دقيقة عن هذا السؤال لا يعوق اكتمال دقتها سوى أن المادة التي درسها لا تمثل كل شعراء المهجر، وهذا طبيعي إذ إن الكثير من الشعر المهجري قد فُقد، أو نفدت دواوين بعض الشعراء والباحث في الواقع يتابع عمل باحثين آخرين سبقوه عالج بعضهم ما يعالجه هو في بحثه وأجمعوا على أهمية الدور الذي قامت به جماعة المهجر في تطوير موسيقى الشعر واعتبارها إحدى المحطات الهامة في تطوير موسيقى الشعر.
والواقع أن شعراء المهجر أخرجوا لنا شعراً موسيقياً جميلاً وجديداً عنوا فيه وفي نظمه كل العناية بالناحية الموسيقية فتغنوا في الأوزان كما نوعوا في القوافي. وبذلك تكون حركة التجديد المهجري من أهم حركات التجديد في تاريخ شعرنا العربي لقد مهدت هذه الحركة بمظهريها العملي والنظري لنشأة الشعر الحر الذي يقوم بشكل عام على نفس الأسس النظرية والعملية التي قامت عليها حركة التجديد المهجرية ويؤيد هذا الرأي كثيرون في إثبات دور شعراء المهجر في التمهيد لظهور الشعر الحر وأن بعض بواكيره ظهرت في أشعارهم.
دراسة واسعة ومتأنية
والحقيقة أن الإنتاج الشعري الضخم لشعراء المهجر الذي يضم عشرات الدواوين ومئات القصائد المتعددة الأشكال والموضوعات والأنساق لا يمكن الحكم عليه موضوعياً دون دراسة واسعة شاملة ومتأنية وهذا ما حاول هذا الكتاب القيام به لحسم هذه المعركة النقدية بتوضيح الظواهر والملامح الموسيقية في الشعر المهجري من ناحية، وتحديد الموقع التاريخي لشعراء المهجر في تطوير موسيقى الشعر العربي من ناحية أخرى.
أخضع الباحث للدراسة أعمال كلٍ من الشعراء:
– إيليا أبو ماضي
– جبران خليل جبران
– ميخائيل نعيمة
– نعمة الحاج
– رشيد أيوب
– الشاعر القروي رشيد سليم الخوري
– الشاعر المدني قيصر سليم الخوري
– إلياس فرحات
– إلياس قنصل
– زكي قنصل
– فوزي المعلوف
– شفيق المعلوف
– رياض المعلوف
– رشدي المعلوف
– أمين الريحاني
الإحصاء والتحليل
ولتحقيق هذه الدراسة كان على الباحث أن يزاوج بين الوصف القائم على الإحصاء والتحليل وقد تمثل المنهج الإحصائي الوصفي في إخضاع كل ديوان للدراسة على حدة مستخرجاً أهم ملامحه الموسيقية، ثم أعمال كل شاعر على حدة ثم مجموعة المهجر الشمالي منفصلة عن مجموعة المهجر الجنوبي، ثم جماعة المهجر بالكامل وذلك لاستخراج النتائج الإحصائية للظواهر الموسيقية والأشكال الشعرية ووصف الظواهر الموسيقية لدى كل من المجموعتين “الشمالي” و”الجنوبي” وجماعة المهجر عموماً، لتوضيح اتجاه المجموعتين، ومدى التجديد لديهما وموقع جماعة المهجر التاريخي بالنسبة لسابقيها ومعاصريها.
وقد تمثل المنهج التحليلي في استعراض جميع الأشكال الشعرية وتحليل بعض الأعمال الشعرية التي وظفت الشكل فنياً، والتي لم توفق في توظيفه، وذلك بعرض أعمال المهجر الشمالي منفصلة عن الجنوبي، وذلك لتوضيح الميول الأدبية لدى المجموعتين ولدى شعراء المهجر عموماً.
كتاب “الغربال”
ويبدأ بالإشارة إلى ما إذا كان لشعراء المهجر “وعي” بما فعلوه من تجديد في أوزان الشعر” فيقول إنه رغم وجود عدة كتب نقدية لجماعة المهجر، إلا أن القليل منها تعرض لموسيقى الشعر من هذا القليل كتاب “الغربال” لميخائيل نعيمة الذي يمكن اعتباره الفلسفة النقدية لجماعة المهجر وفي هذا الكتاب يرى نعيمة وجود علاقة وثيقة بين الشعر والموسيقى فالحياة عند الشاعر هي ترنيمة يسمعها الشاعر ويعبر عنها بعبارات موزونة رنانة “الشاعر الذي تعانق روحه الكون يدرك هذه الحقيقة لذلك تراه يصوغ أفكاره وعواطفه في كلام موزون منتظم”.
ويؤكد نعيمة هذا المعنى في موضوع آخر قائلاً: إن القصد الأساسي من الوزن هو التناسق والتوازن في التعبير عن العواطف والأفكار ولا شك أن الأوزان نشأت نشوءاً طبيعياً وكان سبب ظهورها ميل الشاعر إلى تلحين عواطفه وأفكاره لذلك لحق الوزن بالشعر هكذا نما الشعر العربي ونمت أوزانه. ومن ثم فالشعر موزون بطبعه بحكم الانفعال واللحن لكن نعيمة بفكره المتحرر ورغبته في تحطيم القيود، يرى أن الشعراء مسجونون خلف سياج عالية من القواعد العروضية وجدران عالية من التقاليد الشعرية المتوازنة في شكل دواوين ذات نسق تقليدي يصعب تغييره فلا الأوزان ولا القوافي من ضرورة الشعر ويرى أنها كالمعابد والطقوس التي نقدسها رغم أنها ليست من ضرورة الصلاة والعبادة. ويرى الباحث: أن الحقيقة أن القياس غير دقيق لأن الصلاة والعبادة أشياء منفصلة عن المعابد والطقوس وهذا شيء مختلف كل الاختلاف عن الشعر فلا انفصال في وجوده بين معانيه وبين أوزانه وبين نظامه الموسيقي. فلم يوجد شعر قط بدون نظام موسيقي، بينما وجدت الصلوات والتضرعات قبل المعابد والطقوس ودون المعابد والطقوس.
لكن نعيمة يعود فيوضح موقفه بقوله: “فحبذا يوم نسمع فيه شاعرنا يوقع ألحانه على الأوزان التي يختارها قلبه وتميل إليها نفسه دون أن يرى ذاته مربوطة بلوازم العروض والقوافي”.. ومن ثم فهو يرفض القيود المسبقة والتقاليد الجامدة المفروضة والمعقدة. فهو مع حرية الشاعر في اختيار الوزن الذي يناسبه، والغرض الذي ينفعل به دون حصر للشعر في أغراض متوارثة كالحماسة والغزل والمدح والرثاء ما قيّد الشاعر شكلاً وموضوعاً فلم يظهر لدينا شعراء مثل دانته أو هوميروس.. ونعيمة يخاطب الشعراء مطالباً بنبذ القافية:”إن لم يسهل عليكم أن تطرحوا الأوزان أفلا طريقة تُطرح بها عنا القافية. من الحيف والجهل أن نضحي لأجلها بحرية الإبداع لدى الشاعر وأن نطلب منه أن يشوّه الفكر الذي يود نقله والصورة التي يرغب نقشها لأجل تلك اللذة”..
اجتهادات شعراء المهجر
يعرض الباحث لمختلف اجتهادات شعراء المهجر فيما ذهبوا إليه في شعرهم.
من ذلك مزج الحالات الوزنية الذي توسع فيه كثيرون منهم الشاعر إلياس فرحات في قصيدة (يا حمامة) وفيها يقول:
يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة
سافري مصحوبة عند الصباح بالسلامة
واحملي شكوى فؤاد ذي جراح وهيامه
أسرعي من قبل يشتد الهجير بالنزوح
واسبحي ما بين أمواج الأثير مثل روحي
وإذا لاح لك الروض النضير فاستريحي
وهناك تقنية مزج الأوزان وهي من أعقد التقنيات، فهي سلاح ذو حدين، وهي إضافة فنية تزيد ثراء القصيدة إذا تمكن الشاعر من استخدامها بمهارة والعكس صحيح، من هذا النموذج قصيدة (جميل) للشاعر القروي التي يقول فيها عن صديقه المتوفى:
جميل نم نم هنيئا
ياليت نومك نومي
وأين مونة يوم
من مونة كل يوم
زخرفت أجنحة الأحلام فانطلقت
من الحنايا كأسراب الحساسين
حتى إذا بلغت حناتها وقعت
على غصون الأفاعي والثعابين
ويتخلص جبران خليل جبران من كل الأثقال والقيود في قصيدة (أغنية الليل) التي يقول فيها:
سكن الليل وفي ثوب السكون
تختبي الأحلام
وسعى البدر وللبدر عيون
ترصد الأيام
فتعالي يا ابنة الكرم نزور
كرمة العشاق
علنا نطفي بذياك العصير
حرقة الأشواق
اسمعي البلبل ما بين الحقول
يسكب الألحان
في فضاء نفخت فيه التلول
نسمة الريحان
أما المزج بين أكثر من حالة فنجد له نموذجاً جيداً لدى ميخائيل نعيمة في قصيدته (ابتهالات) التي يقول فيها:
كحّلِ اللهم عيني
بشعاع من ضياك
كي تراك
في جميع الخلق: في دود القبور
في نسور الجو في موج البحار
في صهاريج البراري في الزهور
في الكلا، في التبر، في رمل القفار
في قروح البرص في وجه السليم
في يد القاتل في نجع القتيل
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟
هل أنا حر طليق أم أسير في قيود؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟
أتمنى أنني أدري ولكن
لستُ أدري
وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور؟
أأنا السائس في الدرب أم الدربُ يسير؟
أم كلانا واقف والدهرُ يجري؟
لستُ أدري
ليت شعري وأنا في عالم الغيب الأمين
أتراني كنتُ أدري أنني فيه دفين؟
وبأني سوف أبدو وبأني سأكون؟
أم تراني كنت لا أدرك شيئا؟
لستُ أدري
الشاعر هنا يوظف المسمط أروع توظيف، فقد استغل عمود المسمط في ترجيع صدى ما في نفسه وتكرار ما وصل إليه نتيجة تساؤله في كل زاوية من زوايا التفكير. ولو استعمل الشاعر أي شكل شعري آخر كالعمودي أو المقطوعي أو الموشح مثلاً ما وصل إلى هذا الإخراج البديع الذي يجعل الإيقاع والمعنى وجهين لعملة واحدة بلا تعسف لأحدهما على حساب الآخر.
وتستمر القصيدة حتى تبلغ واحداً وسبعين مقطوعة على نفس الشاكلة مكونة أطول قصائد المهجر على الإطلاق، مخصصاً كل مجموعة مقطوعات لفكرة رئيسة تتجزأ إلى زوايا أصغر، خص كل زاوية بمقطوعة منفصلة، فقد خصص مجموعة مقطوعات لمخاطبة البحر ومجموعة للدير وهكذا.
دراسة الدكتور كامل محمود جمعة حول موسيقى الشعر عند جماعة المهجر تشكل أوفى وأحدث وأعمق دراسة في بابها. أثبت الباحث أن الشاعر المهجري فعل كل ما يمكن فعله بالأوزان وحالات مزجها وبأنساق القوافي وتنويعها، فلم يقف موقف المقلد لما سبق من تنويعات وأنساق، بل أبدع أنساقاً داخل الأنساق ونوّع ومزج بشكل لم يسبق له مثيل فجاءت تنويعاتهم في الأنساق ومزجهم للحالات الوزنية، نماذج بديعة وغير مسبوقة وتنم عن قريحة تتوق إلى الجمال والتشكيل الفني المبتكر، وتدل على عبقرية فذة تغذت من الموروث وتطلعت إلى التعبير عن ذاتها الخلاقة للجمال والإبداع.