المنتدى

ما جدوى (حياة) في (القحط) الروحي والمادي؟

بقلم : أ.د. عمر بن قينه (كاتب جزائري) ..

في (زمن الرجال) زمن التضحية بحبّ، زمن العمل، زمن الصدق والوفاء، والإيمان والأمانة والقناعة والتقوى: فتحنا أعيننا على الطموح المشروع، والجزاء المستحقّ للعاملين الصادقين دون الخاملين المنافقين الكاذبين! فكان لطلب العلم ألق يغري، وللعلماء الاعتبار المعنوي وإن تضاءلت أحوالهم المادية؛ فللمتعلّم مكانة في المجتمع، وإن تضاءلت بين السياسيّين (سوس الحياة) الذين يعلن تاريخهم حربهم التقليدية على العلم والعلماء، فأوحى ذلك باكراً للداعية الشهيد (العربي التبسي) ثالث رؤساء (جمعية العلماء المسلمين) بالقول: «الجزائر مقبرة العلماء»! لأن النظام الاستعماري الفرنسي يحدّ من عمل الكفاءات الوطنية المخلصة، ويفسح لعملائه المسبّحين باسمه؛ فلم يختلف وضعهم بعد الاستقلال، بل كبر عددهم: موالين (للسياسيّين) عميا بكما! فصارت المقولة أكثر دقّة على مرحلة من خلفوا الاستعمار!

إن جرى بعد الاستعمار تعميم التعليم فقد بدأ الاستخفاف بأبنائه يكبر: معلماً ومتعلماً، فمثقفاً ومفكراً ومبدعاً؛ فبدأت طموحات أجيال تتهاوى، فيلقى الطموح والجد والصدق والأمانة الحتوف، فغدت (الجزائر) فعلا (مقبرة العلماء) (مثل مصر)! يقضون من دون استغلال إمكاناتهم: تهميشا بل حصاراً (مبرمجا)؛ فيختار النوابغ الهجرة إلى أوطان فيها (رجال) يقدّرون (الرجال)! رجال سياسة وإدارة ومجتمع، يحترمون الكفاءات دون سائر الاعتبارات، مع ذلك تحوّل هذه الكفاءات الأموال إلى أوطانها (فيهرّبها السياسيون خارج الوطن) لبناء (المغاني) خارجه! كما توصي تلك الكفاءات أن تدفن في الوطن عند الأجل!

حين تتلاشى طموحات شباب أمة في وطنه يحس المرء بالتصحّر الذي يخلقه (السياسي) وحده؛ فيعادي ذلك السياسي كل عالم وعامل حرّ صادق؛ فيعمّ (الجدب): العلمي والروحي والديني والوطني فالاجتماعي؛ فيتّسع الفضاء للأنانية والمحسوبية، فيزهد هذا الفضاء حتى في الحياة، فتفرض الصورة السؤال الموجع: ما جدوى حياة في(القحط)؟ لا علم! لا عمل! لا تعاون ولا إخلاص فيها ولا أمل!» فدع الأوطان واغترب»! قالها الإمام الشافعي (وقد شبع هجرة).

في (زمن الرجال) الصناديد قبل المهرّجين: كانت المُثُل قائمة من خلالهم، كما استعصى المجتمع على التلوّث إبّان الاستعمار، المجتمع يحثّ على العلم والتعلم، ويحبّ العمل والعاملين الشرفاء. هي القيم التي جعلتنا كشباب طموح نستبسل في وجه الضنك المادي؛ فنضحّي مستبسلين بحبّ، لطلب العلم.

في هذا الجو ونحن فتيان منكبون على التعلّم والحفظ سألني رجل كهل وهو يراني منهمكا في حفظ (ألفية ابن مالك) كما أحفظ السور القرآنية يومياً فقال: (يا ولد) أيهما تفضّل الصحة أم العلم؟ لأول مرة أسمع ذلك السؤال، لم أفكّر لحظة فقلت بحماس: (العلم)! فواجهني: ماذا تفعل بعلم يا بني مع صحة متدهورة؟ قد لا تقوى فيها حتّى على رفع كتاب! لم أعرف جواباً! فمضى في محاضرته: ارفق بنفسك، احفظ القرآن، ثم انصرف إلى (ألفية بن مالك). لم ألتفت لاقتراحه، حفظت (الألفية) بمعدل (4 أبيات يومياً) على هامش (لوحتي) لحفظ القرآن الكريم، لا أزال أذكر الرجل بكل ملامحه والموقف بتفاصيله في المكان وما حوله! بعد نحو (ستين سنة).

كما استوقفني لاحقا في خضم الاندفاع والطموح في هذه المرحلة جدل بين اثنين في موضوع: (أعمل لأعيش) أو (أعيش لأعمل) فذكّرني بموضوع (الصحة والعلم) فقلت في نفسي: الله أعدل! فهو قادر على أن يرزقنا النجاح في العلم والعمل ويهبنا الصحة والعافية للعمل بما علمنا وتعلّمنا.

هكذا حكمت لنفسي؛ فانحزت للقول: (أعيش لأعمل)! العمل يعطي الحياة نكهتها، مهما كانت (مستويات العمل المفيد)! فأية قيمة لحياة من دون عمل؟ منطق (أعمل لأعيش) قد يوعز بعيشة بهيمية إذا صارت كلمة (أعيش) بمعنى (آكل) أي الحياة: أكل ونوم، عيشة (حيوانات) صارت (ناطقة)!

تستدرج هذه الصورة اليوم الأحداث وعمل الأنظمة وأصحاب المال، والتكالب على (أدوات العيش) من أجل الرفاهية الشخصية؛ فصاروا مصدراً للضيق الاجتماعي بالحياة! في مختلف المستويات الاجتماعية، منها أساتذة الجامعات ورجال فكر مروراً بالقضاة والمحامين، حتى قال لي أحد جيراني من هؤلاء: «لم يبق للحياة طعم»! فاندفع شباب يطلب الهجرة، حتى غير الشرعية؛ فيصرخ أحدهم متوتِّر الملامح: الموت غرقاً ولا الحياة في القحط، هي صرخة الشاب الجامعي المنكسر، وحدهم الذين يسمونهم (سياسيين) يصخبون (ليعيشوا)! ها هنا بؤرة (قوى الإرهاب) الإجرامية، تستغل (التذمّر) من الحياة، كما ينشط نظراؤهم مروّجو المخدّرات، والمنافقون والمزايدون (بالعرقية) باعة الوطن للقوى الاستعمارية المتربّصة.

ما جدوى (حياة) فقدت مذاقها؛ فعمّها (القحط) الروحي والمادي؟ اللّهمّ عليك بالظالمين.

                   

E-Mail: [email protected]

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X