الثقافة والتجربة في سيرة السياب
“منازل القمر” شهادة جديرة ومهمة عن شعر بدر شاكر السياب وعصره
400 كتاب وبحث عنه باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والصربية
مصادر الثقافة الأجنبية كانت محدودة في سنوات التكوين لديه
موهبته أكبر من ثقافته.. وتجربته في الحياة تتخطى موهبته وثقافته معاً
مسيرته الشعرية مرت بثلاث مراحل كتب فيها 244 قصيدة
خلال وطأة المرض عليه عام ١٩٦٣ كتب ٤٣ قصيدة
كتب مرة إنه مضى الزمن الذي لم تكن فيه الثقافة ضرورية للشاعر
قراءة الشعر العربي والأجنبي والفلسفة والنقد الخطوة الأولى للثقافة
عندما يعثر على الشعر الأجنبي الرائع كان يقول: أين نحن من ذلك؟
بقلم – جهاد فاضل:
في “منازل القمر” للدكتور عبدالواحد لؤلؤة، وهو من النقاد العرب الكبار، دراسة في منتهى الأهمية عن الشاعر بدر شاكر السياب وشعره ومصادره ومدى اطلاعه على الشعر الأجنبي وتأثير هذا الشعر في قصيدته. وهي مواضيع كثيراً ما يثيرها دارسو السياب ولا ينتهون فيها إلى نتيجة ربما لعدم توفر معلومات وافية عندهم عن مدى ثقافة السياب بالأجنبية، وهل هي ثقافة معمقة أم سطحية. ولأن عبدالواحد لؤلؤة عرف السياب عن قرب، وكانت له صلة وثيقة به وبالناقد جبرا إبراهيم جبرا الذي كان بدوره قريباً من السياب، وكثيراً ما كان يمدّه بكتب ودواوين لشعراء إنجليز، فإن شهادته عن شعر السياب وعصره شهادة يُعتّد بها وجديرة بأن يُستمع إليها. فالسياب ليس مجرد شاعر من شعراء الطبقة الأولى في جيله وعصره، وإنما هو رأس هؤلاء الشعراء وأعظمهم شعرية ومنزلة. فبينه وبين أقرانه من شعراء جيله مسافات شاسعة تجعله لا واحداً منهم بل هو أمير عليهم متميز عنهم. كان السياب واحداً من قافلة رائدة ضمت عبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري وشاذل طاقة، وأسماء أخرى كثيرة، إلا أنه رأس تلك القافلة بلا منازع. وهذا ما يستنتجه المرء من تراث النقد الذي تناول عصر السياب، وكذلك من دراسة عبدالواحد لؤلؤة وهي دراسة متميزة واردة في “منازل القمر” الصادر عن دار رياض الرئيس للكتب والنشر في بيروت.
الموهبة والثقافة
في دراسته هذه يقول الناقد العراقي الدكتور عبدالواحد لؤلؤة إنّ السيّاب كان شاعراً موهبته أكبر من ثقافته، وتجربته في الحياة تكاد تتخطى في حجمها موهبته وثقافته معاً. في حدود هذا الإطار يمكن للباحث المنصف أن يتملّى صورة السياب بعد سنوات طويلة على رحيله عن دنيا أحبّها ولم تحبّه، تماماً كما كان موقفه من إحدى عشرة فتاة أحبهن في حياته وكان صادقاً في حبه لهن، لكنه بقي حتى قبل أن يرحل بعام وبعض العام يصيح: “كل من أحببت قبلك لم يحبوني”.
يورد عبدالواحد لؤلؤة في دراسته هذه ما يفيد بأن السياب يكاد يزاحم المتنبي في عدد الكتب التي كُتبت عنه وفي أنه كان مثل المتنبي شاعراً ملأ الدنيا وشغل الناس. ذلك أنه في رسالة دكتوراه عن السياب قُدمت في السوربون بباريس أواخر عام 1989. يورد الباحث ما يزيد على أربعمائة كتاب وبحث عن السياب باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والصربية، إلى جانب 37 عنواناً من أعمال السياب شعراً ونثراً وترجمة، إضافة إلى 50 كتاباً ومرجعاً مما يتعلق بدراسة شعر السياب من قريب أو بعيد. ولا شك أن هذا العدد قد تضاعف منذ مناقشة تلك الأطروحة حتى يومنا هذا.
صورة السياب الشعرية
فكيف للمرء أن يستوضح صورة السياب الشعرية اليوم، بعدما جرى كل الذي جرى في الشعر العربي المعاصر، وبعد أن راح كثير من شعراء اليوم يعيدون كتابة أشعار السياب “إذ ما نزال نسمع أصداءه في قصائد شعراء ولدوا بعد موته أو قبيل موته”!
لكن عدداً قليلاً من هذه الأبحاث والكتب أساسي في تقويم شعر السياب وشخصيته. والكثير سواها يعيد ويقتبس ويناقش ويكرر أقوال سابقيه دون الاعتراف بفضل السابقين. ثم إن بعض دراسات “المستعربين” أو “المستشرقين” لا تتسم بالدقة. فالبروفسور أندريه ميكيل الأستاذ في الكوليج دو فرانس يترجم إلى الفرنسية قصائد من السياب ويذكر في مقدمته أن السياب ولد عام 1927 فيخصم من عمره القصير سنة ليجعله يعيش سبعاً وثلاثين سنة من الصراع والأسى. والأطرف من ذلك أنه يترجم قصيدة “إقبال والليل” ويضع هامشاً أكاديمياً يقول إن “إقبال” إشارة إلى “محمد إقبال” الفيلسوف والشاعر الهندي المسلم (1873 / 1938) الذي جمع بين تراث التصوف والآراء الغربية الحديثة.. فحتى إذا لم يكن الباحث على علم بهذه الحقيقة الجوهرية في حياة الشاعر زوج “إقبال”، فإن سياق القصيدة يشير إلى ذلك في وضوح شديد لا ينتظر أن يغيب عن أي قارئ، فضلاً عن أستاذ جامعي مستعرب. كيف يغيب عن أي قارئ شعر معنى: “يا أم غيلان الحبيبة.. لولاك ما رمتُ الحياة.. إقبال مدّي لي يديك.. مات حبك في ضحاه، وطوى الزمان بساط عرسك”.. والخطاب جميعه بصيغة المفرد المؤنث.. فلا حول ولا.. هذا بالإضافة إلى أمثلة لا تُحصى لدى مستعربين آخرين، أو “مستغربين” ناطقين بالعربية، وجدوا في “اشتراكية” بدر المزعومة موضوعاً صحفياً “يدبج” منه ثلاث مقالات في “الأهرام” لا تحفل بدقة التواريخ ولا بالأحكام النقدية الجارفة عندما تكون القصائد “غير اشتراكية” لأنها عند ذلك تغدو القصائد “تافهة رديئة فاترة غريبة”. وهي أحكام صدرت على قصائد “جميلة بوحيرد” و”الأسلحة والأطفال” و”بورسعيد” و”المومس العمياء”.
أبحاث جادة
الزبد يذهب جفاء دائماً، أما ما ينفع الناس فلا يزيد على بضعة كتب وأبحاث جادة تنير بعض ما خفي من إشارات الشاعر إلى مسائل ثقافية قد لا تقع في حدود معرفة القارئ، وما ينبغي له، أو نشير إلى بعض الأمور في سيرة الشاعر تضيف إلى الشعر غنى. من هذه الكتب دراسة الأستاذ الدكتور إحسان عباس بعنوان “بدر شاكر السياب” دراسة في حياته وشعره 1969”. تتميز هذه الدراسة بالرصانة والدقة، وبالإنصاف قبل كل شيء. فهي تتناول حياة الشاعر اعتماداً على معلومات استقاها الباحث من أصحاب الشاعر ومعاصريه، ومن مجموعة من رسائله غير قليلة.
إن هذه المعلومات ضرورية لدراسة الشعر دراسة موضوعية، وبخاصة لدى متابعة الينابيع الثقافية التي يستقي منها الشاعر. ولا شك أن كثيراً من الدراسات اللاحقة عن السياب قد استندت إلى هذا الكتاب المهم، وأغلب ما تبعه هو من باب التنويعات على اللحن الرئيس. صحيح أن معلومات إضافية قد ظهرت بعد حين، ولكن تلك المعلومات لم تضف كثيراً إلى صورة السياب في حياته وشعره فوق ما يمكن للقارئ أن يستفيده من كتاب الدكتور إحسان عباس.
مسيرته الشعرية
يرى أغلب الباحثين أن مسيرة السياب الشعرية يمكن أن تقع في ثلاث مراحل: الأولى رومانسية البواكير، وتمتد بين أول قصيدة عاطفية كتبها عام 1941 بعنوان “على الشاطئ” وهو في الخامسة عشرة من عمره، وتشير بشكل واضح إلى مؤثرات علي محمود طه، وحتى حدود عام 1950، حيث نشر ديوانه الثاني “أساطير” الذي يعد مرحلة انتقال من الشعر الذاتي ورومانسية جماعة “أبولو” و”الديوان”، والمرحلة الثانية وهي مرحلة الانتماء السياسي وتمتد من حدود عام 1949 حتى عام 1960 على وجه التقريب. وهي الفترة التي شهدت نضوجه الغني رغم توجهات فكرية لم تكن بالغة الإقناع له ولا لكثير من الناظرين في شعره بشكل دقيق في هذه المرحلة الأولى التي ما لبث أن تخلى عنها راجعاً إلى الانكفاء على الذات بما قد يوصف بمرحلة الرومانسية المتطورة. تمتد هذه المرحلة من حدود عام 1960 حتى وفاته في 24 / 12/ 1964 هنا نجد النضوج الفني الذي يرفده ما تيسر له من روافد ثقافية. يقوي منها ويطوعها لموهبته وأوضاعه الخاصة ما تراكم لديه من تجارب في حياة قصيرة، تجارب ليس فيها غير الألم والخيبات المرة على أنواعها.
قد تنير بعض الأرقام والإحصاءات جوانب مهمة من شعر السياب.
فقد لوحظ أن السياب كتب 99 قصيدة في مرحلته الأولى التي امتدت ثماني سنوات. ثم كتب 50 قصيدة في مرحلته الثانية التي امتدت 12 سنة.
وكتب 95 قصيدة في مرحلته الأخيرة التي امتدت أربع سنوات مؤلمة على مستويات عديدة من جوانب الخبرة. وهذا يعني أنه كتب في المرحلتين الرومانسيتين الأولى والثالثة 194 قصيدة على مدى 12 سنة، بينما كتب 50 قصيدة في مرحلة انتمائه السياسي التي امتدت 12 سنة كذلك شملت الانتماء السياسي والخروج على ذلك الانتماء أيضاً، وخلاصة ذلك عددياً أنه كتب في المرحلتين الرومانسيتين أربعة أضعاف ما كتب في مرحلته الوسطى من الالتزام التي تعادل سنواتها مدة المرحلتين الأولى والثالثة معاً.
هذا التقسيم إلى مراحل ثلاث له ما يسوغه في طبيعة القصائد التي كتبها السياب خلال 24 سنة وقد بلغت 244 قصيدة وهو إنتاج غزير بجميع المقاييس.
كتب السياب 35 قصيدة في سنته الأولى بدار المعلمين العالية ولم يكتب قبل ذلك نصف هذا العدد. وهذا قد يشير إلى الأثر الكبير الذي تركه انتقال هذا المغني الريفي، المستعد للعشق دوماً، إلى حيث وجد نفسه في محيط أشبه بعالم الأحلام المثالي عند المراهق، فرفع عقيرته بالغناء:
ديوانُ شعرٍ ملؤه غزلُ
بين العذارى بات ينتقلُ
الصدمة الأولى
ويقترب من هذه الظاهرة أنه في صدمته الأولى بالفصل من الكلية في مطلع عام 1946 وجد نفسه يكتب 24 قصيدة. كلتا الحالتين تجربة جديدة. الأولى انغماسه في محيط من الإناث لم يعهده في مراعي جيكور، حيث (هالة) الراعية هي الأنثى الأولى التي عرفها خارج محيط الأسرة. والثانية انغماسه في الحماس السياسي الذي لم يعهده في دار جده ولا في اجتماعات الليالي السياسية في قريته. هذا الانغماس وهذا الحماس يقعان في الأساس من (أغاني البراءة) بما في ذلك مرحلة (أساطير).. والمسألة الثانية التي يظهرها الجدول الزمني بما كتب بدر من قصائد أنه عند اشتداد وطأة المرض عليه عام ١٩٦٣ كتب ٤٣ قصيدة وهو أكبر عدد من القصائد كتبها في حياته التي كانت تقترب من نهايتها وهذه تجربة من نوع آخر.
الموهبة
يتساءل الدكتور عبدالواحد لؤلؤة في دراسته عن أي مصادر كان يستقي منها السياب قصيدته؟ ويجيب: من الموهبة بالدرجة الأولى والموهبة مسألة طبيعية لا يستطيع المرء تفسيرها إلا إذا استطاع أن يفسر لماذا لا تغرس إلا في منابتها النخل! ويبدو أن ما في جنوب العراق من ماء وتراب وهواء ونار هي عناصر الطبيعة الأربعة التي تجعل للنخل من طلعها قنوان دانية تحمل التمر والشعر. وإلا فكيف نفسر كثرة النابهين والشعراء في البصرة وجنوب العراق ابتداء من الخليل وأبي نواس وانتهاء بالسياب وسعدي يوسف ومن تنسم هواء الجنوب من أمثال عبدالرزاق ولميعة وسواهم كثير؟
في عام ١٩٥٦ يقول بدر: “لقد مضى الزمن الذي لم تكن فيه الثقافة ضرورية للشاعر. فالموهبة وحدها لم تعد تكفي لخلق شعراء كأيدث ستويل وت. س. إليوت”.
وفي رسالة إلى يوسف الخال بتاريخ ١٩٥٧/٥/١ يسأل بدر :”هل قرأت ما كتبه ت.س . إليوت عن الموهبة الفردية والتراث وعلاقتهما؟ الشعر يجب أن يبقى خيطاً يربط بين القديم والجديد.. يجب أن نستفيد من أحسن ما في تراثنا العربي في الوقت نفسه الذي نستفيد فيه مما حققه الغربيون في عالم الشعر. وفي وقت لاحق قال إن الموهبة الشعرية يجب أن تدعم بالثقافة، والخطوة الأولى للثقافة هي قراءة الشعر العربي كله، وقراءة الشعر الأجنبي ، والفلسفة والنقد.
ثم تحول في عامه الثالث بالكلية إلى قسم اللغة الإنجليزية وكان هذا أقصى ما يستطيع فعله في تلك الأيام من أجل الاتصال بثقافة أجنبية ولكن ما كان يقدمه قسم اللغة الإنجليزية من ثقافة أجنبية كان محدوداً جداً.
الشعر باللغة الإنجليزية
وفي أواخر الخمسينيات توثقت صلته بمجلة شعر البيروتية وبصاحبها يوسف الخال وعدد من الشعراء المتصلين بها مثل أدونيس. وربما كان في اللبّ من اهتمامه بتلك المجلة والمتصلين بها من الشعراء، على الرغم مما قيل عنها وعنهم، اهتمام المجلة بنقل نماذج منتقاة من الشعر الأوروبي والأمريكي وما يتيسر من دراسات نقدية عن ذلك الشعر وعن تلك المرحلة ذكر يوسف الخال عنه: “وكان إذا وقعت في يده صفحات من الشعر الجيد باللغة الإنجليزية انصب على فض مغاليقها والغوص إلى عميق معانيها وكثيراً ما استنجد بالقاموس، فإذا هوامش الصفحات تضيق بالشروح وكان متى عثر بالشعر الرائع، سعد به وتحسّر له في وقت معاً، فيقول: أين نحن من هذا الشعر؟”
ويقول عبدالواحد لؤلؤة: لا أحسب أن بمقدور أحد اليوم أن يتخيل في أي اتجاه من الإبداع كانت موهبة السياب ستيسر لو لم يقعده المرض ، ولو امتد به العمر ليشهد الاندفاعة الكبرى في الترجمة عن الآداب الأجنبية مما عرفه العراق وبعض البلاد العربية بدءاً من عقد الستينيات إلى اليوم. في دراسة شاملة مدعمة بالأرقام والشهادات ، يقدم الشاعر سامي مهدي صورة عن حدود ثقافة السياب، خلاصتها أن مصادر الثقافة الحديثة أي الثقافة الأجنبية كانت محدودة أو ضئيلة في سنوات التكوين لدى السياب، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وفاة الشاعر. وهذا صحيح جداً، تدعمه الأرقام الطريفة الكاشفة التي يوردها الباحث عن أعداد المترجمات المنشورة في العراق وبعض الأقطار العربية . فإذا وضعنا هذه المترجمات إلى جانب مجلات “الأديب” البيروتية (١٩٤٢) والكاتب المصري (١٩٤٥) والآداب البيروتية (١٩٥٣) وما تقدمه من ترجمات اتضح لنا الحجم المتواضع من مصادر الثقافة الأجنبية المنقولة إلى العربية، على فرض أن هذه المترجمات كانت تقع بيد السياب بشكل من الأشكال.
وليس بدر شبيه المتنبي يمدح كافور الإخشيدي ثم يهجوه طلباً لنوال وعرض زائل، إنه كفاح الغارق يتعلق بقشة وقد تخلى عنه رفاق الأمس إلا أقلهم من هنا رومانسية الانكفاء على الذات واستحضار الماضي وتجاربه.
دراسة في منتهى الأهمية لجوانب في سيرة بدر شاكر السياب وشعره كتبها ناقد عراقي كبير عرف بدر عن قرب وخبر تجربته، تشكل بلا ريب مصدراً رصينا من مصادر البحث في سيرة السياب أعظم شعراء الحداثة العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.