«جميل بعد التعديل» .. شفرات الرمزية ووضوح الواقعية
النص يقدم أطروحات وقضايا متنوّعة تهم المجتمع
اعتماد دائرية الأحداث بنهاية تبشر بفصل جديد
الديكور اعتمد على الإيحاء بالواقع دون شغل حيز
الأداء التمثيلي صنع جسراً بين منصة العرض والجمهور
القفشات الكوميدية كسرت أي رتابة

مُعالجة مشكلات النفس الإنسانية يتضمنها العرض المسرحي “جميل بعد التعديل”، حيث يصوّر مُعاناة الإنسان النفسية عندما تُمارس ضده الضغوط وتقع به تحت طائلة القهر، فيضطر لتغيير نمط حياته للأسوأ، والمسرحية التي تُقام حالياً وحتى منتصف الشهر الجاري على مسرح قطر الوطنيّ تناقش مشكلة التملّق الاجتماعي الذي قد ينتج عن عدم قدرة الإنسان على تحصيل ما يستحقّه لأسباب لا تتعلّق بالكفاءة، كما يناقش العمل الازدواجية التي تنتجها العادات المُجتمعية ويُعاني منها المُجتمع، وذلك في إطار كوميديا ذات قالب ينتمي للدراما النفسيّة، والمسرحيّة من إنتاج مؤسّسة الدلال للإنتاج الفنيّ، ومن بطولة محمد الصايغ، وفرج سعد، وهدى المالكي، وزينب العلي، وعلي الخلف، وهبه لطفي، موسيقى ناصر سهيم، وأشعار راضي الهاجري، وتأليف وإخراج سعود علي الشمري.
نزع الأقنعة
“جميل بعد التعديل”، هي تجربة مزجت بين شفرات الرمزيّة ووضوح الواقعية، وسعت للوصول برسالة إلى المُتلقّي تنبّهه وتخبره بالتحديات التي تُواجه البشرية عندما يتمّ نزع الأقنعة عمن نعتقد أنّهم على غير هيئتهم الحقيقيّة، فتحذّر من الوهم الزائف من قبل البعض بأنهم قادرون على التفكير بطريقة أفضل عن باقي أفراد المُجتمع في حين أن هناك من يستغلّ جهلهم ويضللهم ويسير بهم في تجاه مصالحه، وفي حين يستفيد الطرفان يتضرّر الكثير من البشر الذين لم يدخلوا منذ البداية في إطار تلك اللعبة. والنصّ يناقش قضية اجتماعية ويعالج إشكالية النفاق والتملّق في قالب كوميدي فضلاً عن تقديم أطروحات وقضايا مُتنوّعة تهمّ المُجتمع، وذلك في إطار مشوق يعتمد على كوميديا الموقف التي تحظى بإعجاب الجمهور.
دائرية الحدث
وتدور أحداث العمل حول شخصيّة جميل الحافي الذي قرّر أن يعامل المُجتمع مُتبعًا أسلوب النفاق الذي تجنّبه لسنوات، فلم يجنِ أيّ نجاح، وهو الأمر الذي دفعه إلى تغيير نمط تعامله مع المُحيطين له في المُجتمع بتملّقهم بعد أن فشل في حياته العملية خلال انتهاجه أسلوب الصراحة ومكاشفة من حوله، بينما تُساعده على تحقيق مآربه أمّه التي تصل بينه وبين عددٍ من أقاربه الذي ينتمون لعائلة المليان، ويستطيع جميل الحافي الاستحواذ على ثقة العائلة، فبينما يقوم بمهام كتابة بحث علمي نيابة عن أحدهم وإقناع آخر بأنه مثلُه الأعلى يُخطط للوصول إلى قلب سميرة تلك المرأة العانس كبيرة السنّ، كما يحاول في الوقت نفسه خِطبة نوف للوصول إلى ثروتها، ويكتفي جميل بالتعبير عن مشاعره الصادقة تجاه كل أفراد تلك العائلة في مذكرات خاصّة به، إلا أنها تقع بين يدي سميرة والتي تقوم بنشرها بين كل أفراد العائلة التي تقرّر طرده من مُحيطها، ولكن المسرحية لا تنتهي عند هذا الأمر، حيث يراجع الجميع مواقفه فيدركون أنه لا غنى لمُجتمعهم عن مثل تلك الشخصية التي تعدّ مصدر إفادة للجميع رغم وقاحتها بالنسبة لهم، ومن هنا يتبدى لنا دائرية الأحداث التي لم تنتهِ بنهاية المسرحية، فنعلم أننا أمام فصل جديد من الانتهازية والنفاق اللذين يضران بالقطاع الأغلب من المُجتمع والذين لن يجنوا شيئاً من هذه اللعبة بل إنهم سيزدادون ضرراً، إلى أن يقرّر أحدهم خوض اللعبة والدخول إلى مُعترك النفاق الاجتماعيّ. ومن خلال الشفرات والأطروحات يجعل العمل الإجابة في النهاية للمُتلقّي ليجيب عنها حسب أيدلوجيته، حيث لا تقدّم المسرحية في النهاية حلاً لذلك الواقع البغيض، فيتمّ بذلك التنبيه لشرّ الوقوع في فخّ الواقع وفي براثن من لا يبحثون سوى على مصالحهم حتى لو أضرّ ذلك بالجميع.
صراع النفس
أما عن الصراع في المسرحية، فهو في الأساس نفسي بخلاف الصراع المادي، وهو صراع النفس البشرية التي أجهز عليها الطمع الإنساني، فنجد أن هناك انفصاماً داخل نفس الشخصيات وعدم القدرة على الثقة في الذات، ومن هنا يتبدّى لنا أن الصراع المادي المرئي في العمل ما هو في الأساس إلا صراع نفسيّ يتجلّى ظاهراً في هيئة الحوار بين الحافي وأفراد عائلة المليان، ليبدو الصراع جلياً من خلال تلك الحيلة المسرحية المعتمدة على تفتيت الشخصيات، فجميعهم يبدون وكأنهم أوجه لمعادلة واحدة، فيتمّ استثمار تناقضات الفعل المسرحي كي يستطيع المتلقي تعلّم الدرس بنفسه واكتشاف قصد العمل بذاته بعد محاولة فكّ شفراته البسيطة، وقد قصد المخرج استخدام الكوميديا ليصل بالعمل إلى قلوب الجمهور، وبالتالي عقولهم مستعيناً بالقفشات التي تخدم سياق العمل دون أيّ إسفاف.
التكشف والدخلاء
وبالتطرق إلى اللحظة الأهمّ بين المشاهد التي تمهد لها، وهي لحظة التكشّف، والتي تعتمد عليها الدراما بشكل عام، فنجدها في المسرحية بقراءة سميرة للمذكرات ولتنبثق بذلك فكرة امتلاء الواقع بالزيف من خلال تبنّي العلاقات الرمزية المكثفة التي لا تتجاوز في الوقت نفسه الأبعاد المعقولة، والتي برزت في النصّ متمثلة في حالة الطمع الجنوني وشلل عقل عائلة المليان بجعلها تعتمد على الحافي، فهم قد أتاحوا الفرصة بأنفسهم للدخلاء ليستغلوا جهلهم، سواء كان الأمر يتمثل في جميل أو في العجوز المشعوذة “أم داوود” التي تعتمد عليها خالة نوف في اتخاذ قراراتها حتى أنها تقرّر تزويج ابنة أختها لجميل بناء على نصيحتها.
مساحات فارغة
لجأ المخرج لديكور واقعي ملأ أركان المسرح وتمثّل من خلاله شكل البيت الشعبي الذي يعيش فيه جميل الحافي ووالدته مُعتمداً على الإيحاء في التعبير عن الواقع من خلال الكتلة أو الجزء الذي يحتاجه المُمثل في عمله، بينما تظهر أغلب كتله في الخلفيّة بما يعبّر عن واقعية الحدث، كما انتقل بسهولة عن طريق ديناميكية سهلة الحركة إلى بيت عائلة المليان، وقد ساهم الديكور في إعطاء إمكانية للممثل في التحرك بحرية كاملة في هذا الجو الواقعي الذي اكتفى بقطع الديكور في الخلفية وساعد على إيجاد مساحة أمامية فارغة، وبالتالي اكتملت الوظيفة الأولى للديكور المسرحي وهي التعريف بمكان وزمان الأحداث، وحقّق المخرج ما أراده من سينوغرافيا العمل بإيحاء المتلقي بما يريد، كما اعتمد المخرج على الإضاءة الكاملة في أغلب الأوقات الوقت ليساعد ذلك في إضفاء حالة الواقعية المسيطرة على كل جوانب العمل، وساهمت الأغاني التي جاءت تفصل بين المشاهد في التحضير لها وتهيئة الجمهور لاستقبالها.
الكاريكاتيرية
لقد وضع المخرج المسرحية التي اتسمت بالطابع الكوميدي المدروس والهادف، داخل إطار من الجدية، فخرج العمل بما يمكن تصنيفه في قائمة الكوميديا السوداء، هذا إذا استثنينا، على صعيد الإخراج، بعض المغالاة لدى بعض المُمثلين الذين بالغوا، أو لنقل أمعنوا في تحقيق العنصر الكوميدي من خلال حركات غلب عليها الشكل الكاريكاتيري الشبيه بالكوميديا ديلارتي، وهو ما خدم إستراتيجية المخرج، وبذلك لم يصل إلى حد الإساءة إلى الهدف المتوخى، خاصة أن النصّ في تصنيفه ينتمي بشكل أكبر إلى مسرح الفارس القادر على جذب الجمهور.
أنماط بشرية
وبشكل عام فقد استطاع الأداء التمثيلي أن يصنع جسراً بين منصة العرض والجمهور من خلال القفشات الكوميدية التي اعتمد عليها المخرج في إطار محاولته لكسر أي رتابة تنتاب المسرحية بمونولوجاتها التي طالت في بعض أجزاء العمل وحتى لا يتسلل الملل إلى الجمهور، حيث حاول من خلال الكوميديا أن يجعل الأحداث تتشابك في عقل المُتلقّي وتدفعه للتواصل معهم من خلال أداء غلب عليه التوازن والإجادة في أغلب اللحظات، وفي المجمل لم تعتمد المسرحية على الإسقاطات غير المباشرة بل اختارت توجيه ما أرادت قوله بمباشرة ومن خلال العبارات المُستخدمة في الحياة، وهو الأمر الذي أتاح للمُمثلين أن يبتكروا ويبدعوا في مجال الكوميديا من خلال الألفاظ المُستخدمة في الواقع، فالعمل قدّم مجموعة مُختلفة من الأنماط البشرية والتي يمكن أن تتواجد في أي مُجتمع.