المنتدى

الفن في مواجهة الاستبداد

بقلم : سامي كمال الدين (إعلامي مصري) ..

«إلى كل من يعتقد أني خسرت لقولي الحق أو للتعبير بصدق عن رأيي. أنا في حال أفضل بكثير مما كنت عليه. حر في فكري. أناقش كل ما يهمني بحرية. أربي ابني على الحق وقوله ولم أضطر أبداً لأن أظهر منافقاً أمامه لخشيتي من الباشا أو حاشيته فاقدين البوصلة. هذا وقد كرمني ربي الذي لا أتاجر إلا معه».. هكذا كتب الفنان عمرو واكد على موقع التدوينات القصيرة تويتر، بعدما رفض نظام السيسي تجديد جواز السفر الخاص به، ومنعه من دخول وطنه بتلفيق تهم له.

يواجه أيضاً الفنان خالد أبو النجا الاتهامات نفسها، خلاف الوصف بالإرهابي والخائن، والذين باعوا أنفسهم للإخوان، في متوالية لا تنتهي من دراما الإعلام المصري.

لم يفعل خالد أبو النجا أو عمرو واكد وغيرهما سوى دورهم المنوط بهم إزاء وطنهم، فدور الفن الانحياز للإنسان، والصدق في التعبير والإيمان بالقضايا التي تخاطب الإنسان وتدعمه وتسانده.. المعنى الحقيقي للفن أن يكون عين الشعوب المقهورة، وصوتها الذي تكتمه الأنظمة.

أتحدّث عن الفن الحقيقي وليس الفن الذي طوّعته المخابرات لصالحها، فهذا فن تمديد عمر السلطة.

في مقالته «الثقافة والفوضى» التي نشرها الشاعر والناقد ماثيو أرنولد عام 1869، والذي وصفته جريدة الديلي تيليجراف وقت ذاك في إنجلترا، وكانت تؤيد النظام الملكي بـ «إرميا الأنيق» وراحت تسخر منه قائلة إنه «الكاهن الأعلى لمذهب الأيدي الناعمة والدقة العارمة»، وأنه يحرّض عمّال بريطانيا على الغناء والإنشاد وقراءة المقالات.

إنها نفس التهم التي يواجهها عمرو واكد وخالد أبو النجا في إعلام السيسي، ولكن بصيغ عصريّة.

أولئك الذين يرون في الفنان مجرد «مشخصاتي» يمثل دوره، يتقاضى أجره، يسهر في أقبية المخابرات، أو يعيش لياليه الحمراء الملاح، ويبدو أن الموضوع ممتد منذ 1869 وحتى الآن، فهو ما بدأ به أرنولد مقاله الثقافة والفوضى «الفن لم يكن إلا عبداً معطراً في خدمة التعاسات الإنسانية، أو عقيدة تغذّي روح الخمول والبطالة، بحيث تدفع أتباعها للإعراض عن مدّ أيديهم للمساهمة في اجتثاث الشرور.

وغالباً ما يختزل إلى شيء بلا جدوى عمليّة.. مجرد أوهام وأحلام في نور القمر.

جاء مقال أرنولد معاكساً تماماً لنظرة صحيفة الديلي تيليجراف، صوت السلطة، كاشفاً لهم عن قيمة الفن في إزاحة الخطأ الإنساني، ومساعدة البشر في التخلص من معاناتهم، الفنانون العظماء يسعون إلى «ترك هذا العالم وقد أصبح أفضل وأسعد حالاً مما وجدوه عليه»، الفن الحقيقي صرخة احتجاج ضد الظلم والاستبداد، يجسد الألم ليهرب إلى السعادة، يرفض التعديلات الدستورية، لأنه شاهد ببصر وبصيرة الفنان الصورة التي سيكون عليها الوضع، يعايش الحالة ويقدّمها للعالم، وهو أيضاً ما ذكره فنان هوليوود سيد بدرية في حفل مسلسل شتاء 2016 في تركيا، بأنه استمع لما يقوله إعلام النظام عن الأصوات المُعارضة له في الخارج، فلما جاء واحتكّ بزملائه من الفنانين أدرك أنهم خلاف ذلك تماماً.

يشارك سيد بدرية هشام عبد الحميد وهشام عبد الله ومحمد شومان وريم جبنون وعشرات من الفنانين الواعدين بطولة هذا العمل الدرامي، وهو أول عمل درامي مصري يتم تصويره بالكامل في تركيا، يتحدّث عن المقاومة وحق الحياة لشباب فرّوا بحريتهم من مصر عبر صحراء السودان ليواجهوا عصابات من المهرّبين، وشخصيات بلا ضمير تتكسّب على هروبهم.

تعرّض هشام عبد الله لنفس ما تعرّض له عمرو واكد وخالد أبو النجا، رفضت القنصلية المصرية في إسطنبول تجديد جواز سفره، بل وقبض عليه من قبل شرطة تركيا، تمهيداً لترحيله إلى مصر، بحجة أنه إرهابي، عبر بلاغ دولي من السلطات المصرية، وعانى لأيام في سجون تركيا، لأنه فنان حاول أن يقوم بدور الفن الحقيقي في مواجهة الظلم والطغيان.

عشرات العلماء والكتّاب والشعراء والفنانين عبر التاريخ عُذبوا وطوردوا، بل وأحرقت أجسادهم لانحيازهم لقول الحق والحقيقة، ووقوفهم في مواجهة السلطان والحاكم بأمره، لكن التاريخ لم ينسَ لا هؤلاء الذين نافقوا وباعوا شعوبهم، ولا هؤلاء الذين انحازوا للإنسانية والإنسان.

من شاهد عمرو واكد في موقعة الجمل واستبساله الحقيقي في مواجهة بلطجية مبارك، ومشاركته في كافة أحداث الثورة، ثم تجمعنا بعد ذلك في مكتبه بعد منتصف فبراير 2011 وسعيه لإيجاد كيان سياسي ثوري يجمع الجميع، يدرك أن عمرو واكد لن يتراجع عن موقفه من هذا النظام القاتل، كما أنه لم يتوانَ عن تقديم أعماله، فقد انتهى من تمثيل دور في فيلم أمريكي جديد، ويجسد الآن دوراً في عمل إسباني عن شخصية لسان الدين بن الخطيب الذي ترجمت أعماله في أوروبا وحرقها خصومه السياسيون العرب باسم الدين وقتلوه. العمل باللغة الإسبانية، ويناقش دور المسلمين في نهضة أوروبا».

خالد أبو النجا أيضاً، رغم كل محاولات إعلام مخابرات النظام تشويهه، يكمل مسيرته الفنيّة، ويتألق في أحاديثه التلفزيونيّة خارج مصر مطالباً بردّ الحرية المسلوبة من نظام مستبد، يوالي إسرائيل، ويحميها حدودياً وأمنياً، لتتخطى القوة الناعمة حدود بلادها، وتبدع خارجها.

المدهش أن خالد أبو النجا وعمرو واكد يجمعهما العمل مع مخرجين عظماء مثل يوسف شاهين ويسري نصر الله وداود عبد السيد وسمير سيف ومحمد خان وهالة خليل، الذين أحدثوا نقلة في الفن المصري على مستوى الصورة والفكر.. خلاف الأعمال العالميّة لواكد.

زمان كانت القوة الناعمة مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ويوسف إدريس عابرة للقارات، وهي مستقرّة في أوطانها، الآن القوة الناعمة عابرة للقارات أيضاً، ولكنها خارج وطنها الذي عشش فيه الظلم والطاغوت.

إنها تجارتنا مع الله، التي لا نظنّ خذلانه لنا فيها أبداً.. وما أعظمها من تجارة تطمئن الفؤاد والروح، وتريح الضمير وتجعلنا نتجه، حيث تتجه إنسانيتنا.

                   

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X