المنتدى

ستبدي لك الأيام.. قريباً

بقلم : توجان فيصل (كاتبة أردنية) ..

مؤسف الهوس والشلل السياسي العربي بانتظار تكشّف سر أُسمِيَ «صفقة القرن». وهي صفقة يُسلّم مُنتظروها العرب بأنها ستقرّر، ليس فقط مصير القضية الفلسطينية، بل ومصير ومسار دول عدة في محيطها، وصولاً لترسيم حدودها مرة أخرى. إن صح هذا فأقله هكذا صفقة لا يمكن أن تكون من صنع رئيس أمريكي أهوج بات برسم العزل، وصهره المُنتشي بكونه «نسيب الحكومة» على طريقة أغنية شادية في مسرحية «ريا وسكينة».. فهذان ليسا سايكس وبيكو، ولم يكسبا حرباً عالمية ليُتاح لهما التصرّف بإرث أعدائهم النازيين والعُثمانيين. والشعوب العربية تجدّد وعيها وتفتح ربيع ثوراتها.

ولكن، لكون حالنا الرسمي، ومثله بعض الشعبي، وصل لتصديق هكذا روايات، لا بأس من أن نتحدّث عما جرى ويجري بشأن القضية الفلسطينية بتسميته «صفقة القرن». وما سنتناوله يستحق التسمية بأكثر من «الشبح» الذي يجري الحديث عنه حالياً، كونه مُخطط بدأ «عملياً» مع بداية القرن الـ21 بخطة مُفصّلة أنتجت تغيّرات كثيرة ومهّدت لأخرى أكبر.. وهي خطة آرئيل شارون لحل المُشكلة الفلسطينية التي هي مُشكلة وجودية بالنسبة لإسرائيل.

وشارون بدأ بتطبيق خطته، غير المُعلنة، منذ انتخابه لرئاسة الحكومة عام 2001. ولكون بعض ما قام به لتنفيذها أثار احتجاجات إسرائيلية، قام الباحث الإسرائيلي في جامعة تل أبيب كاري سوسمان بالدفاع عن شارون بشرح خطته في تقرير مطول نشره في مارس عام 2005. وشارون كان بدأ قبل هذا بخطوات تخدم خطته المُبيّتة، حين قام بتصفية ما أمكن من اللاجئين الفلسطينيين خارج إسرائيل في مذبحة صبرا وشاتيللا، خدمة لهدف رئيس في خطته هو التقليل من أصحاب حق العودة المُطالبين به.

ولكن في العام 2001 وكرئيس وزراء للكيان الصهيوني، عمل شارون على تنفيذ بنود في خطة تؤسّس للحل الذي يريده. من أهمها الانفصال من جانب واحد عن غزة. وبهذا تخلّص شارون من جزء كبير من الثقل الديموغرافي الفلسطيني الذي هو أكثر ما يخشاه المحتلون الصهاينة على المديين المتوسط والطويل، بدرجة أن تأتي الديموغرافيا كأولوية حتى على الأرض.. باستثناء «القدس»، حيث لم يعتبر لا شارون، ولا مُؤرِّخ خطته والمُدافع عنها «سوسمان»، أن المستوطنين شرقي القدس وفي محيطها «مستوطنون» حين أورد تعداد المستوطنين المتمثل في 240 ألف حينها، قائلاً إن شارون قرّر أن 190 ألفاً منهم «لن يتزحزحوا من مكانهم» وسيُعاد توطين الـ 50 ألفاً الباقين الذين يعيشون في الضفة وقطاع غزة.. الأرجح لكون غزة توجب فصلها لكونها مخزناً ديموغرافياً ضخماً وخطيراً.

أما المخزن الآخر الذي كان يخشاه شارون فهو «اللاجئون الفلسطينيون في الشتات»، ولهذا أباد سكان مخيمي صبرا وشاتيللا. فيما ذات الخشية لدى رابين (الذي اعتبرته أنظمة عربية حمامة سلام) تمثلت بأمره بتكسير عظام شباب الانتفاضة ليُحيل جزءاً من الكتلة الديموغرافية الفلسطينية لمُعاقين.. ومثلهما نتنياهو يكافئ قتلة الفلسطينيين ميدانياً (وحتى العرب كما تبيّن في تكريمه لحارس السفارة الذي قتل أردنيين)، فيما حليف نتنياهو الأبرز ليبرمان يُطالب بتشريع يُتيح الحُكم بإعدام المُقاومين الفلسطينيين، غير مُكتف بالإعدامات الميدانية.

ولكن للتخلّص الجمعي من اللاجئين الذين يُطالبون بدولة وبحق العودة، فقد قَبِل شارون بدولة فلسطينية مُؤقتة في أجزاء من الضفة الغربية، تخوض مُفاوضات مُطوّلة حول أراضي الضفة فقط.. ما يُؤدي في النهاية لأن يُصبح العداء أولاً: مُجرّد خلاف كغيره من الخلافات الحدودية في العالم، فلا يكتسب صفة الاستعجال. وثانياً وهو الأهم: تؤدي هذه الحالة لفقدان منظمة التحرير – التي تحوّلت «لحكومة سلطة فلسطينية» شرعية – تمثيل لاجئي عام 48 في مختلف بلاد العالم. وأهداف شارون من إقامة دولة فلسطينية مؤقتة، حسب سوسمان، تكتمل بأهمها وهو «تذويب الكيان الفلسطيني في الدولة الأردنية ونقل مصالح الفلسطينيين الاقتصادية لمصر والأردن».

وما لا يذكره سوسمان هو دور شارون في التخلّص من عرفات الذي يصفه «بالمتمرّد القاسي». فعرفات أصر على دولة في كامل الضفة المحتلة ولم يرض التنازل عن هذا في كامب ديفيد عام 2000. والحقيقة أن التخلّص من عرفات صاحب الشعبية الهائلة بين الفلسطينيين، كان لازماً لتحقيق هدف أن لا تعود منظمة التحرير مُمثلة للفلسطينيين في الشتات. ولهذا أُعدّ محمود عباس وجرى فرضه كرئيس حكومة خوّلت لها أهم صلاحيات السلطة، وبعد تصفية عرفات أعيدت الصلاحيات من رئيس الحكومة لرئيس السلطة.. بل وتمّت تصفية السلطة التشريعية المُنتخبة باعتقال رئيسها والعديد من أعضائها الحمساويين، لصالح سلطة عباس. كل هذا لا يذكره سوسمان. ولكن تداعياته التي لم يشهدها كلها شارون ليستثمرها لتغليب أطماعه على مخاوفه، استثمرها من أتوا بعده، بخاصة نتنياهو.

هذا مُلخص خطة قامت وعمل عليها شارون لخمس سنوات كرئيس حكومة، قبل أن يدخل في غيبوبة بعد عام ونيف من التخلّص من عرفات. ولو لم تأت نهاية شارون هكذا فمن الأرجح أنه كان سيستغل كلاً من غياب عرفات ووجود عباس الذي كان الفلسطينيون رفضوه كرئيس وزراء، حد أن اضطر للانسحاب بنفسه من أي فعل يتعلق بالمنصب. أي أن «الصفقة» التي أعد لها شارون وطبّق مراحل عديدة منها، كانت ستصبح هي ذاتها في الجوهر ولكن أكثر تشدّداً واستسهالاً لحقوق وسيادة المُحيط العربي.. ما يؤشر على طبيعة صفقة القرن في نسختها التي ستقدّمها حلقة من المهووسين استطاعوا أن يجمّدوا شركاءهم العرب في حالة انتظار وذعر.. والأسابيع القليلة القادمة ستكشف هذا.

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X