بقلم : منى عبد الفتاح (كاتبة سودانية) ..

 تأسست قضية التنوّع البشري على طابعٍ فلسفي غربي، وبالرغم من ارتباطه بالفكر العربي المُعاصر في القرنين الأخيرين إلا أنّ ذاك الفكر لم يستطع دعمه في عالم اليوم المتشابك، إذ تركه يصارع العولمة حتى كادت أن تذيبه داخل بوتقتها.

وبالرغم من هجرة مجموعات كبيرة من البشر لأسباب اقتصادية وسياسية وغيرها، مكوّنة مجتمعات هي مزيج ثقافات متعدّدة، إلا أن توجّس الإنسان وخوفه الدائم مما يمكن أن تسلبه منه هذه الروافد الثقافية الجديدة؛ جعل الاحتفاظ بالخصوصية، سمة نسبية. هذه المنظومات الثقافية والاجتماعية تبدو متميّزة حتى لو كانت داخل مجتمع واحد، وما يعنّ من مظاهر الاختلاف يزيد من قيمة التنوّع والتعددية الثقافية. ولا تظهر حصيلة كلّ ذلك إلا بالحوار الذي يكشف عن ثراء مجتمعي ويزيد من مكانة وأهمية المجتمع البديل بل يمنحه قوة وحيوية.

وكما يتداخل مفهوم التنوّع مع الحوار، يتداخل أيضاً مع مفهوم الهُوية لتنتسبا إلى جذرٍ فكريٍّ واحد. وهنا يمكن أن نلاحظ بسهولة أنّ الحوار بين الثقافات أصبح بديلاً حضارياً في مجال تنمية العلاقات بين الشعوب، وأنّه لا بد أن يقوم على مبادئ التسامح واحترام الآخر المختلف. ويكون ذلك بتحمّل ثقافة ما، أخرى مختلفة عنها من أجل الانفتاح على الآخر ما من شأنه إبعاد المواقف السلبيّة المسبقة. ولعلّ ارتقاء هذين المبدأين إلى وضعهما في مرتبة الحقوق الأساسية للشعوب، جعلهما شرطين ضروريين لحماية الهويات الثقافية من مظاهر الاستلاب، وتأسيس مبدأ الحوار الذي يعمل على تنمية روح التعاون والإثراء المتبادل وحسن التعايش بين المجتمعات البشريّة. فالحوار بين الثقافات، هو أقدم وأهم طريقة للحوار على كل مستوياته، ذلك أنّ زيادة التنوّع الثقافي تؤدّي إلى ظهور تحديات اجتماعية وسياسية مثيرة للخوف والرفض، فإذا لم يتم حقنها بين الحين والآخر بترياق الحوار يمكن أن تهدّد القوالب النمطية وتؤدّي بالتالي إلى العنصرية والتعصّب والتمييز والعنف. فقد سلكت المجتمعات البشرية وما زالت درباً شائكاً في سبيل العيش بسلام في عالم متعدّد الثقافات. وبالرغم من أنّ عدداً متزايداً من الأفراد تأقلم ويعيش بصورة طبيعيّة، إلّا أنّه يداهمهم الشعور بين الحين والآخر بعبء إدارة انتماءاتهم الثقافية. وما زالت الفجوة بعيدة الغور بين أولئك الذين يرون التنوّع كتهديد، والذين يرونه كإثراء.

سطّر العديد من المفكرين على صفحة مفهوم الحوار، خطوطاً للتنوّع لا يستقيم أساس الحوار من دونها. فهو في نظرهم «تبادل مفتوح ومحترم للآراء بين الأفراد والجماعات التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة تؤدّي إلى فهم أعمق للإدراك العالمي الآخر». وهو «تحقيق جماعي مستدام في العمليات والافتراضات والضمانات التي تؤلف الخبرة اليوميّة». ومن كلّ ذلك يمكن أن يُعدُّ الحوار عملية أساسية لبناء تفاهم مشترك من خلال آلية لخلق مجموعة مشتركة من المعاني تجعل التفاهم المتبادل والتفكير الإبداعي ممكناً.

أما تطوير نظرية الحوار فتبدو واضحة عند المفكر الروسي ميخائيل باختين الذي لم يقتصر على منهجية محدّدة، سواء أكانت فلسفية أو سياسية أو أدبية، وإنّما اهتم بمجموعة من المُقاربات. ففضلاً عن اعتماده في نقاشه لفكرة الحوارية على نماذج أدبية مثل دوستويفسكي، فإنّ باختين سلك مساراً علمياً تنوّع بين العلوم الإنسانية وتاريخ الأدب والأنثروبولوجيا، والفلسفة واللغة. وما أهله لذلك هو دراسته للأديان واطلاعه على الفلسفة الألمانية لكانط وهيغل.

هناك علاقة جدليّة بين الحوار وبناء الهُوية فكلما تراجع الحوار حلّ الصراع محله، وكلما تقدم الحوار ظهر تأسيس الهوية، إذ أنّ العلاقات الإنسانية لا بد وأن تمضي في أحد السبيلين، ولا مفر من اتخاذ أحدهما بناءً على معطيات وأسباب ومؤثرات عدّة.

يُطلق مفهوم الهوية على نسق المعايير التي يُعرف بها الفرد، وينسحب ذلك على هوية الجماعة والمجتمع والثقافة. ويُعدُّ مفهوم الهوية من المفاهيم المركزية التي تسجّل حضورها الدائم في مجالات متعدّدة، وبذا فهي من أكثر المفاهيم تغلغلاً في عمق حياتنا الثقافية والاجتماعية اليومية. تعدّى موضوع الهوية الفكر الفلسفي بشقيه الغربي والعربي ليصبح إشكالية معرفية ثقافية تهم كل المجتمعات بتبايناتها الثقافية واختلاف مواقعها الجغرافية إلى الدرجة التي يتم التعبير عما هو مشوّش بأنّه واقعٌ تحت أزمة الهوية. وهذا التنوع هو الذي يجذب للبحث عن معرفة ذلك الآخر المختلف، وأثناء عمليات المعرفة يمكن أن تنصهر الثقافات المختلفة وتنمّي أصولها. وبسبب العولمة أخذت الأجيال الجديدة تنزع إلى الاختلاف والتباين الثقافي والبحث عن التميّز بالاختلاف فيجعلهم يغوصون بعيداً بحثاً عن هُويتهم الخاصة.

هناك رؤية أخرى يتبناها فتحي المسكيني أستاذ الفلسفة بجامعة تونس، مؤكّداً أنّ مهمة الفلسفة هي تقديم هوية إنسانية كونية. وجّه المسكيني سهام نقده نحو الهوية التي صنعتها الدولة القومية الحديثة، باعتبارها ذاتاً موروثة ومتراكمة. وقرّر بوضوح قاطع في كتابه (الكوجيطو المجروح.. أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة، 2013م)، بأنّ الهوية هي اختراع ثقافي خطير، طورته كل الثقافات وبخاصة تلك التي لم تعد تمتلك كنزاً خلفياً أو مخزوناً احتياطياً لنفسها غير حراسة الانتماء بواسطة الذاكرة الممنوعة من التفكير. ومع تصاعد الأزمات الاجتماعية، لا يزال الفكر العربي مشغولاً بإشكالية الهوية دون النظر في مدى مرونتها وانفتاحها وإمكانية تشكيلها. وفي هذا الطرح الذي يضع الهوية على المحك، إشارة واضحة لوجود أزمة بنيوية، مردّها عدم قابلية المجتمع لاستيعاب الآخر الذي لا يكون خطراً على تلك الهوية، وأنّ الهوية نفسها لا تتشكّل دفعة واحدة، وإنّما تستمر في انفتاحها على التجارب الإنسانية للفرد والجماعة.

ظلّت الهوية في التباسات الوعي العربي، يتم التعبير عنها أحياناً بشعور الأقليات القومية في كل مجتمع بهوية ثقافية متميّزة وهو شعورٌ زائف، وحيلة للانكفاء على الداخل حتى تشعر المجموعة بالأمان. وهذا الانكفاء لا يساهم في تطبيق الحوار على مستوى الأفراد لترتقي عقلية الاتصال إلى التفاهم المتبادل، عند أو قريباً من توافق الآراء حتى يتم القضاء على تأثير العنف أو أي أشكال تمييزية أخرى. وإذا تم إنزال الحوار على مستوى هذه القوميات فإنّه يتخذ معنىً أوسع، فبتوجيهه لأطراف أخرى لا ينتظر جواباً لطبيعته كخطاب لا ينطبق عليه لفظ الحوار المباشر. وفي مستوى أكبر كالحوار بين الأمم، فإنّه إذا لم ينجح الحوار فسوف يتحوّل أيضاً إلى صراع، لأنّ الأفراد يكونون خاضعين لمؤسسة سلطوية جماعاتية دينية، أو طائفية، أو عشائرية تمارس هيمنتها على تابعيها. وقد شهد التاريخ الإنساني نماذج كثيرة من الصراع والعنف بالرغم من الحوار، وهو ما يمكن إرجاعه إلى الاصطدام بمنظور ومرجعية دارجة تنتوي إفشال الحوار مسبقاً، وتعقد محاكمة للإرث التاريخي للصراع في أوقاتٍ سابقة. فالعلاقات الحوارية هي دائماً أمور متبادلة، ونتيجة لذلك فإنّها تنقل للحوار نفسه أي توتّر ناشئ يمكن أن يظهر بين مواضيع مختلفة. ومع ذلك، فإنّ العلاقة الحوارية هي أيضاً أساس للاتفاق إلى الحد الذي تكون في نفس الوقت أساساً للتفاهم المتبادل. أما ذهنية الصراع فلن تؤدّي إلى تواصل أو بناء أرضية مشتركة يتم فيها احترام قيم وثقافة الآخر وخصوصيته. فالعائق الأساسي للحوار الحضاري هو عدم وجود الرغبة الصادقة، وعدم إمكانية تجاوز الإرث التاريخي الذي من شأنه تشويه عوامل التواصل وإغلاق أبواب المعرفة وتبادلها.

لا تزال قضية التنوّع والهُوية من أعقد المشاكل على الإطلاق، ويعيش الفرد تمزقات نفسيّة واجتماعية وعاطفية هائلة بسبب الميراث الهووي، والارتباط العاطفي بالوطن وبالذاكرة الجماعيّة بالإضافة إلى التأثيرات التي تحدثها الأيديولوجيات المختلفة. وبما أنّه من الصعب القطع بتوافر كامل مقوّمات نجاح الحوار بين الثقافات، فإنّ أول ما يمكن معالجته هو إيجاد علاقة متكافئة بين المتحاورين على أساس المساواة في الإنسانية والاحترام المُتبادل بين المُنتمين إلى ثقافات بشريّة مُختلفة.