بقلم : جهاد فاضل(كاتب لبناني) ..

 قد لا تكون صفقة العصر الذائعة الصيت مجرد طيف، يحوم في أفق السياسة في العالم وفي المنطقة، ولا يمكنه أن يتحول إلى حقيقة. ذلك أن الأخبار القادمة من واشنطن -وهي راعية الصفقة- تفيد أن أم النكبات الفلسطينية ستبصر النور بعد عيد الفطر السعيد، وبذلك تكون نوعًا من عيدية أمريكية للفلسطينيين. وهي عيدية لا يستطيع أحد سوى الإسرائيليين معرفة كنهها بالضبط لأن الأمريكيين أحاطوها -على غير عادتهم- بكتمان شديد. ولكن الفلسطينيين يتوجسون شرًا من هذه الهدية المسمومة ويتخوفون من أن تُفرض فرضًا عليهم لأنهم الآن، ومعهم إخوتهم العرب، في أدنى درجات الضعف، وهو ما يساعد عدوهم على ترتيب ما يشاء من المكائد بوجههم.

ولكن حفظ الأسرار لا يكفي وحده لإنجاح الصفقات. فقد تفشل الصفقة فشلاً ذريعًا حتى ولو أعدها أبو الصفقات النيويوركية الناجح -أيما نجاح- في عالم الأبراج والعقارات. ذلك أن الصفقة التي تتناول عقارًا هي غير الصفقة المعدة لتدمير وطن تدميرًا لا قيامة له بعده. هذا إذا كان البحث في حل قضية كالقضية الفلسطينية يدخل أصلاً في إطار الصفقات. ولكن العقل الذي تربى في عالم العقارات والبورصات لا يمكنه أن يغادر هذا العالم، ويتحول فجأة إلى راع متفهم لقضايا الشعوب والإنسانية، وليس أفضل من يقدم هذا العقل من صاحب هذا العقل نفسه. فقبل فترة قال ترامب إنه باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل أزاح عن طريق الصراع العربي الإسرائيلي مسألة شائكة، طالما أجّجت هذا الصراع، والأمور الباقية ستكون أسهل على الحل.. وهو قول إن لم يكن مبعثه السخرية أو السذاجة فمن الممكن تفسيره بغرور القوة الذي يصور لصاحبه أن بإمكانه أن يقول لهذا الجبل انتقل من مكانك إلى مكان آخر فيذعن للأمر، تماماً كما بإمكانه أن يحجب عن منظمة الأونروا للإغاثة الفلسطينية ثمانين مليون دولار من أجل تسهيل الوصول إلى صفقة القرن.

ولكن أمريكا لا تعدم الدبلوماسية وهي تسعى إلى تنفيذ هذه الصفقة فقد نقل عن لسان جاريد كوشنر مستشار ترامب والموكل إليه منذ فترة الإعداد لهذه الصفقة: «إذا قلت دولتين» فهذا يعني شيئًا للإسرائيليين وشيئًا آخر مختلفًا عنه للفلسطينيين لهذا السبب قلنا إن علينا ألا نأتي على ذكر ذلك.

فلنقل فقط إننا سنعمل على تفاصيل ما يعنيه ذلك وهو قول لا تنقصه الشطارة مصدرها يهودية كوشنر لا أمريكيته ولا يشك أحد في أن كوشنر أنجز كل ما يتصل بهذه الصفقة مع الإسرائيليين ولو لم يكن الأمر كذلك لما وصلت الآن إلى فصولها الأخيرة.

ولكن على الرغم من كل التكتم والدبلوماسية اللذين أحاطا بهذه الصفقة من البداية إلى اليوم فإن خطوطها الكبرى لا تختلف كثيرًا عما هو ماثل على الأرض: إدارة ذاتية أو إدارات ذاتية موزعة على ما عفت إسرائيل عنه وتركته للفلسطينيين وباقي الضفة لها، أما من يصبو من الفلسطينيين إلى دولة فيمكنه التماسها أو العيش فيها في دولة الأردن يضاف إلى ذلك حوافز اقتصادية كثيرة من شأنها أن تحسن الوضع المعيشي وتنقل الفلسطينيين من حال إلى حال، الأكيد أن النخب الفلسطينية ليسوا في وارد التعامل مع قضيتهم المقدسة كصفقة، وفلسطين في وجدانهم أرض وقف ودار للعروبة وللإسلام ولكن الأكيد أيضًا أن من بيدهم مصائر هذه الصفقة قد لحظوا هذا الموقف من الفلسطينيين ولديهم وسائلهم التي تواجهه، فصفقة العصر ستنفذ قسراً -شاء الفلسطينيون أم أبوْا- وإذا كانوا مصرين على أن تكون القدس عاصمة لهم، فإن بالإمكان توسيع مساحة القدس بحيث تضم قرية أبوديس الملتصقة بها إليها وتكون جزءًا من القدس ومقرا لسلطة فلسطينية ما. وفي ظل حالة الموات الآخذة بخناق الشعوب العربية، وحالة اليأس المستبدة بفصائل وجماعات فلسطينية لا داعيَ لتسميتها، قد لا يجنح أكثر المراقبين تفاؤلاً إلى التفاؤل حيال ردة الفعل الفلسطينية والعربية على صفقة ترامب وكوشنر ونتنياهو وبقية حاخامات إسرائيل والعالم. وإلى حالتي الموات واليأس يمكن للمرء أن يضيف حالات أخرى تزيد الهم على القلب منها افتقاد النصير في العالم الخارجي وعدم العثور عليه إلا في مثل فنزويلا وكوبا، ولا فائدة تُرجى بالطبع من هكذا نصرة. فالعالم كله في حالة تأييد، أو في حالة صمت غير بعيدة عن حالة التأييد. وفي مناخ الهجمة القوية التي تقودها أمريكا في الوقت الراهن ضد إيران، كثيرون يرون أن الظرف الحالي هو الأكثر ملاءمة لضم ما تبقى من فلسطين إلى إسرائيل، وهذا هو عين ما ترمي إليه صفقة العصر إذا أراد المرء ترك الكلام المنمق واستخدام الكلام الخشن الذي يعبر عن مقتضى الحال. لقد وصلت إسرائيل إلى مبتغاها كاملاً، في حين وصلنا نحن إلى قعر الهاوية، أو على الأقل، إلى ما يُفترض أن نواجهه مواجهة مختلفة عن مواجهات الأمس.