بقلم : توجان فيصل (كاتبة أردنية) ..
كانت هنالك «منظمة تحرير فلسطينية»، اعتبرتها غالبية ساحقة من الشعب الفلسطيني في الداخل والمَهجر مُمثلة شرعية ووحيدة لهم. كان ذلك في عهد ياسر عرفات، والذي لا يُمكن إنكار أنه كان زعيماً وطنياً رغم أخطائه التي وصلت للخطايا في أواخر حياته كتعديل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية.. خطايا تُبرّر في سياق ضُغوط دولية وعربية لخطأين طوعيين. ولكن عرفات قضى لكونه لم يَقبل ما تلا من مَطالب تفريط. ونهايته المأساوية تذكّر بنهاية توماس مور، الذي رفض، في لحظة خيار مبدئي بعد طول مُهادنة لسلطة الملك هنري الثامن الغاشمة، وضْع توقيعه على مُمارسات تمَس قناعاته ومَبادئه التي عاش بها وعمل لأجلها.
حال المُنظمة الذي تدهور بعد قبول «غزة وأريحا أولاً» يُشبه كثيراً حال حكومة فيشي أثناء الاحتلال النازي لفرنسا. وأخطاء عرفات قد تكون أقل من أخطاء أو خطايا فيليب بيتان (رئيس حكومة فيشي) الذي كان أيضاً قائداً عسكرياً مَحبوباً ومُبجّلاً من جنوده (تم أخذه قسراً لألمانيا بعد هزيمة النازيين في فرنسا بإنزال نورماندي، ولكنه عاد طوعاً لفرنسا ليُحاكم فيها، ويَدفَع كقائد عسكري شُجاع ثمن أخطائه بحق بلاده). ولكن دور محمود عباس يُشبه كثيراً دور بيير لافال، المهندس الرئيس لقصة فيشي كلها. ويُمكن التوثق من هذا بمُقارنة اتفاقية أوسلو التي وقّعها عرفات، باتفاقية «أبو مازن – بيلين» التي نجد كل الشياطين التي ظهرت لاحقاً في «تفاصيلها». ومن أهم أوجه الشبه إلغاء عباس أي دور للسُلطة التشريعية التي فازت فيها حماس واستحقت رئاستها، واستحواذ عباس على كل السُلطات التي تَقزّمَت لـ»التنسيق الأمني» مع إسرائيل، أي أصبح شرطيها الفلسطيني، تماماً كما أصبحت حكومة «فيشي» الشرطي الفرنسي لدى ألمانيا النازية. وهذه مُقارنة ومُقاربة يُفترض أن يفهمها اليهود أكثر من غيرهم، أقله من يُريد من العالم أن يُكفّر عن «المحرقة».
ولكن سؤالنا هو «هل يقبل الفلسطينيون بحكومة فيشي أخرى ممثلة لهم»؟!، وهذا يُعيدنا لقضية التمثيل الفلسطيني التي لم تحظ باهتمام كافٍ من النخب الفلسطينية، باستثناء عقد مؤتمر شعبي في إسطنبول قبل عدة أشهر لم تتبعه إجراءات عملية. ولعل عجز وعُزلة عباس الذي يلوّح بنيّته الرحيل للأردن، تاركاً الساحة الفلسطينية لتبعات «صفقة القرن»، تكفي لبيان حال تمثيل سلطته المزعوم للشعب الفلسطيني. والأردن أعلن رفضه صراحة للتسوية المطروحة تحت مسمى الصفقة التي تسارع في ما سبقها من إجراءات لا أكثر.. وحتماً هو لا يُرحّب بمُخرجاتها على مستوى رجال «سلطة» بكل أعباء وتبعات أداء وحتى مُجرد تواجد هؤلاء على أرضه. فهذا غير مُخرجات القضية الفلسطينية الذي تمثل في التهجير الجمعي للفلسطينيين للأردن عام 1948، واللجوء بعد حرب عام 1967 والتي انتهت باحتلال الضفة الغربية للمملكة. والأخيرة ليست هجرة أردنيين حاملين للجنسية الأردنية من جزء من البلاد احتُل لجزء آخر لم يُحتل، بل هجرة فُرضت على مدنيين بقوة السلاح.. فيما الفلل الفارهة التي أقامها عباس ورجاله في عمّان ليعودوا لها بعد إبرام صفقاتهم، وتحميل الأردن عبء أمنهم، إضافة لحملهم جنسية أردنية.. هو أمر آخر تماماً.
المُهجّرون من فلسطين والذين يعيشون تحت الاحتلال جميعهم أصحاب حق، وبحاجة لممثلين لهم. ففي القضايا المدنية يكون هذا المُمثل مُحامي صاحب الحق أو ولي أمر صاحب الحق القاصر. ولكن في القضايا السياسية والدولية منها بخاصة، يلزم وجود جهة تمثل أصحاب الحق جمعياً للحصول على الحق فعلياً وليس رمزياً. وهو لا يتعارض مع أية جنسية أخرى حصل عليها المُتضرّر لاحقاً، فتلك الجنسية تضمن حقوقه كمواطن من حامليها وليس كصاحب حق سابق في وطن احتل. وبالتالي لا حرج سياسياً يلحق بالدولة التي حصل المُتضرّر على جنسيتها من تسمية ممثل لهؤلاء لتحصيل حق له، تلك الدولة ليست طرفاً في ضياعه. فالفلسطيني المُهجّر بات يحمل جنسيات عدة منها جنسيات الدول الداعمة لإسرائيل كالولايات المتحدة، بل والمُساهمة في إقامتها كبريطانيا وفرنسا، وهي لا ترى حرجاً في تمثيل جهة أخرى لحقوق أخرى تضمنها القوانين الدولية لمواطنيها الجدد هؤلاء. ومن هنا يمكن، بل ويتوجّب على الفلسطينيين المُهجّرين قسراً من وطنهم اعتماد جهة تمثّلهم فعلاً كشعب. وهذا التمثيل لا يأتي إلا بالانتخاب الذي يُمكن إجراؤه إلكترونياً. والانتخاب لا يُعتبر سارياً إن لم يتجدّد دورياً. وكل هذا غير متوفّر للمُسمّاة «سلطة فلسطينية».
إسرائيل سبق أن انسحبت من غزة لكون غزة أصبحت أكبر تجمّع للاجئين الفلسطينيين على أرض فلسطينية، وأضافت نيتها جعلها «الدولة الفلسطينية»، لكن دونما حقوق سيادية لا على حدودها ولا على مياه وفضاء إقليميين كما لكل دولة بحق.. إضافة لحملات إبادة تقوم بها للتخفيف من الضغط الديموغرافي بالقتل والإعاقة. ولكن ما جرى أن غزة أصبحت قلعة مُقاومة تملك أسلحة متطوّرة، تستقطب قوى مُقاومة أخرى كـ»الجهاد الإسلامي». وستستقطب آخرين ولو لم يكونوا منضوين تحت تنظيم إسلامي.. فأعضاء في الحزب الشيوعي في لبنان حاربوا إلى جانب حزب الله لتحرير الجنوب. وغني عن القول أن لغزة تحالفات أخرى في المنطقة.
والنتيجة هي إما أن تصبح حماس والجهاد الإسلامي ممثلتان للفلسطينيين حقيقة وعلى الأرض، أو أن تقوم النُخب الفلسطينية بتجميع الصوت الفلسطيني في إيجاد أو إحياء جسم سياسي أوسع يُمثل الفلسطينيين ويُطالب بحقوقهم.. فلا مناص من الاعتراف بكون عباس وجماعته قضوا تماماً على ما كان «مُنظمة تحرير فلسطينية».