بقلم : جورج علم (كاتب لبناني) ..
كانت مراسم التشييع على قدر المهابة التي يمثّلها الراحل الكبير البطريرك الكاردينال نصرالله بطرس صفير، لكن المناسبة تخطّت الشخص إلى الرمز، وكأن الحدث الجلل قد أصاب عائلة الطائف، ومن ينتسب إليها في الوطن والمهجر، ذلك أنه كان من أبرز آبائه، وأن القيادات المسيحيّة المشاركة قي وضعه كانت بحاجة ماسّة إلى دعم معنوي، لم يتردد البطريرك في توفيره، كي يبصر الطائف النور.
وشاء صراع المحاور أن يغيّر المزاج، ووسائل العلاج، فاغتيل الطائف، مع اغتيال رئيس الجمهوريّة المنتخب رينيه معوّض، قبل أن يتسلّم مهامه، ويكون المؤتمن الأول على وضعه موضع التنفيذ. واغتيل الطائف عندما تمكّن الرئيس الراحل حافظ الأسد من أن ينهي دور اللجنة الثلاثيّة العربيّة الراعية له، والتفرّد في تطبيقه وفق مقتضيات المصلحة السوريّة العُليا. واغتيل عندما تمسّك حزب الله بسلاحه، دون سائر الميليشيات الأخرى. واغتيل عندما جرت أول انتخابات نيابيّة وفقاً للقانون الذي وضعه آنذاك رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السوريّة العاملة في لبنان، اللواء غازي كنعان، وقد قاطعها يومها معظم القيادات المسيحيّة. واغتيل يوم اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عرّابه الأول.
شعر البطريرك صفير بأن ما ينفّذ على أرض الواقع مختلف كليّاً عن الاتفاق الذي أيّده، وإن الولايات المتحدة التي لعبت دوراً محوريّاً لإقراره، قد تخلّت عنه، وسمحت لسوريا أن تلعب دور الوصي على مقدّرات لبنان، فتحوّل الوطن إلى ساحة ملاكمة بين القوى الإقليميّة والدوليّة المتهافتة على التهام خيرات المنطقة، وانتقلت الحرب الأهليّة من الشارع، إلى المتاريس السياسيّة، واكتنف الغموض المصير والمستقبل.
وعندما اغتيل رينيه معوّض الذي جاءت به تسوية الطائف رئيساً للجمهوريّة، قام السوري بمهمّة اختيار الرئيس نيابة عن اللبنانييّن، فدعم انتخاب الياس الهراوي، ومددّ له ثلاث سنوات إضافية بعد انتهاء ولايته الدستوريّة. وكررّ السيناريو مع الرئيس آميل لحود، من دون أن يكون للمعارضة اللبنانيّة أي دور في التأثير والتغيير. وشعر البطريرك يومها بأن الطائف قد أنهى الحرب الأهليّة، لكنه اقتنص السيادة، بعدما سيطر الجيش السوري على 75 بالمئة من مساحة لبنان، فيما سيطر الجيش الإسرائيلي على البقيّة الباقية، وإن اللبناني إن لم يكن في حمى المظلّة السوريّة، فهو حكماً في حمى المظلة الإسرائيليّة. وتساءل في حينه كيف تكون الإدارة الأمريكيّة ضدّ إيران، وتغضّ الطرف عن حزب الله الذي كان يشتد ساعده يوماً بعد يوم تحت نظر وسمع مخابراتها. وكيف تغاضت إسرائيل عن تسليحه، وهي التي صنّفته في خانة الإرهاب؟!. وزاد منسوب الاستغراب بعد تحرير الجنوب عام 2000، وكيف ناصرت الولايات المتحدة إسرائيل إعلاميّاً ومعنويّاً، وغضّت الطرف عن الاستحكامات العسكريّة التي مكّنت ميليشيا الحزب من إرغام الجيش الإسرائيلي على الانسحاب تحت ضغط القوة، وكيف وقف الجيش السوري في لبنان موقف المتفرّج، وبدلاً من أن يسارع إلى دعم الحزب عسكريّاً، راح يسدّ عليه بعض طرق الإمدادات اللوجستيّة، لأنه كان يريد الحفاظ على حالة الـ «ستاتيكو» التي كانت سائدة، بتوافق ضمني مع إسرائيل.
ولا يمكن تجاهل المحطات التاريخيّة التي كان للبطريرك مواقف وطنيّة بها، منها اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، وانتفاضة ثورة الأرز المليونيّة، وانسحاب الجيش السوري في نهاية أبريل 2005، إلا أن لبنان وفق حساباته لم يحقق الاستقلال الناجز، ولا السيادة المطلقة، لأن الشكوك كانت تحوم حول المصالح الدوليّة – الإقليميّة التي مكّنت حزب الله من أن يصمد 33 يوماً في وجه إسرائيل إبان حرب يوليو 2006، ويكرّس نفسه كقوّة ضمن المعادلة الإقليميّة.
ولد البطريرك صفير في العام 1920، مع ولادة «لبنان الكبير»، وكان جلّ همّه أن يراه وطناً نهائيّاً لأبنائه المسلمين والمسيحيين، سيّداً، حرّاً، مستقلّاً، عزيز الجانب بين أشقائه العرب. وقد أفنى عمره في تقديم المبادرات والتضحيات في سبيل ذلك. ويغادر هذه الفانية حاملاً في قلبه خوفاً عميقاً على مستقبل الوطن الذي أحب، لأن الإدارة الأمريكيّة تريده حديقة خلفيّة لـ«صفقة القرن»، جاهزة غب الطلب لتوطين اللاجئين، وإبطال حق العودة. ومن سخريات القدر أن العماد ميشال عون الذي وقف يوماً خصماً عنيداً للبطريرك، ولاتفاق الطائف، قد أصبح رئيساً للجمهوريّة، وكرّمه يوم رحيله بمنحه أرفع وسام في الجمهوريّة اللبنانيّة، هو وسام الاستحقاق اللبناني!.