المنتدى

بوادر تحرّر (العدالة) في الجزائر : آمال بعد يأس !

بقلم : أ.د. عمر بن قينه (كاتب جزائري) ..

بات الضيق، التوتّر، القلق: حقيقتنا الحياتية، عليها ننام ونصحو، تتفاعل الضغوط فتنتج الانقباض حتى الإحساس بالتعاسة؛ وقد غابت عوامل البشر والسعادة؛ فبقيت هذه في نفوس طيوفا وأحلاما، تتوق إليها، دون القبض على شعاع منها!

نبحث عن ملاذات من سوء يحاصرنا داخل مدننا وأطرافها، هربا أحيانا حتى من جهاز (حاسوب) وهاتف (محمول) أيضا! لخلاص بدن ونفس وذهن من عنت! عنت عام؛ فيكبر الإحساس بالأوجاع لدى بعض كما يشتدّ لدى آخرين؛ فيكون التوق إلى ملاذ!

النأي! النأي! الهرب! بعيدا! عن زحام المدن، عن أوجاعها! هلمّ! هلمّ!

أين المفرّ مما يعكّر صفو حياة؟ هل في فضاءات الريف! بين أحضان الطبيعة؟ لكن أين هي تلك الفضاءات التي نتوق إليها؟ نحلم! نفكّر! يدقّ الشوق إليها هربا من السوء الأسود!.

ربما جنح بعض للاستئذان حتى من أهله توقا إليها؟ هربا من المدينة وهمومها! في الشارع والحياة العامة وصراعات المصالح، والعلاقات الإنسانية التي تتدهور يوميا! ماذا جرى؟ ما أسباب هذا التحوّل الذي صارت فيه الحياة العامة (غولا) تزرع (التعاسة) حتى اليأس؟

هي (السياسة) الرعناء! أمّ المصائب لدينا بالجزائر التي زهّدت في الحياة: (سياسة بغي) تحيكها (عُصب) بدأ بغيها (يتوحّش) منذ عشرين سنة؛ فصيّرت فيها حاشية السوء الأخطبوطية رئيس الجمهورية (وثنا)، حتى وهو مقعد! فأفسح لها للإفساد والعبث بأملاك الوطن ومؤسساته، فاستعاض عن رأي الأمة فيما يخصها؛ فانطلق يشرّع (بالمراسيم) حسب هواه؛ فمسّ ذلك هوية الأمة وتاريخها، وهو (يطوّر) مشاريع الاستعمار الفرنسي (العنصرية) قبل نحو قرن، في التفرقة والتفتيت، فدخل الوطن في (التّيه) تهجره الكفاءات؛ فيفرّ الشباب إلى مختلف بقاع الأرض، وتنتحر فئات، ويزهد الأخيار في العمل، في الحياة نفسها التي عاثت في واقعها عصابات الحكم والمال فسادا ما بعده فساد!

استجاب الله لدعوات المؤمنين في السر والعلن وفي الصلوات، في صلوات (الجُمَع) نفسها تلميحا غالبا وتصريحا أحيانا عند الغضب؛ فانفجرت انتفاضة ثورية تلقائية سلمية متحضّرة عمّت في وقت واحد بكثافة لأول مرة في التاريخ أنحاء الوطن، ابتداء من يوم 22/ 2/ 2019 تهتف بصوت واحد: (فليغادر الفاسدون السلطة) وبشعارات مدوية بالخط العريض:(فليزولوا كلهم- ارحلوا جميعا- يا سرّاقين- يا خائني الأمانة) فانخرطت في الحركة كل الفئات، حتى بعض رجال الثورة القدماء دون (المجاهدين المزيّفين) المرتزقة.

لم يتأخر المحامون والقضاة عن المسيرات وإعلانات المعاضدة والعمل لتحرير الوطن؛ فسقط الرئيس المريض الذي لم يحترم نفسه؛ فحقّت عليه النهاية البائسة! فتوالت الاستقالات والإقالات، فتحرر القضاة أنفسهم بإراداتهم وعزمهم من صنّاع السوء السياسي في (رئاسة الجمهورية) و (وزارة عدل!)؛ فانطلقوا في ملاحقة الظالمين، يحاكمونهم؛ فيزجون بالرؤوس الكبيرة نفسها في السجون! ومنع آخرين من الهرب خارج الوطن.

هذه الصورة من بوادر تحرّر العدالة اليوم في (الجزائر) عملا لتحريرها من قبضة أجهزة إدارية، تسمّي رئيس الجمهورية (القاضي الأول) الذي يدوس حتى القوانين التي يسنّها بنفسه أو تسنها أجهزته؛ حتى صار هو المشرّع (الأكبر) لا دور أمامه لا لبرلمان الانتهازيين المصفّقين ولا (مجلس أمة)، مجلس الموائد الممدودة والصكوك المصرفية والمهمات السياحية من خزينة (الأمة) التي عاثت فيها فسادا عُصب دخيلة على (السياسة العلمية العميلة المنضبطة بقواعدها وشروطها وآلياتها)!

بوادر الصورة الجديدة لتحرّر القضاء ورجاله في الجزائر من إنجازات هذه الانتفاضة المباركة، وهي تحاكم الرؤوس الكبيرة (وزراء، ورئيسي وزراء سابقين) أقيلوا أو أجبروا على الاستقالة، وتزجّ ببعض في السجون، فضلا عن مديرين، إلى جانب (رجال أعمال) من ذوي العلاقة بالسياسيّين الفاسدين، هرب بعضهم وأوقف بعض وزجّ بآخرين في السجون، لاستعادة ما نهبوا من أموال، أرقامها خيالية! بالتنسيق مع (أشباه السياسييّن). تحاول المؤسسة العسكرية في هذا المنعرج التاريخي الانسجام مع شعبها؛ فلا تقمعه ولا تنقلب عليه!

لايزال الدرب طويلا وشائكا وشاقا لإعادة التوازن في حياة أمة، بعد يأس أغرى بالعزلة حتى النأي! وقد حضر الأمل بالعمل؛ فشرع المواطن الجزائري يفتك حريته حين تخلى عن جبنه وصمته، فتوكّل على الله الذي ينصره! ثورة مدنية جارفة لكنها (ناعمة) بقدرة السميع العليم؛ أطلقت الألسنة، فصدحت الحناجر بإدانة الفساد واللصوص، والدعوة إلى المحبّة والخير والأخوّة والسلام! في وطن حرّ قويّ آمن أمين!

                   

E-Mail: [email protected]

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X