بقلم : جهاد فاضل (كاتب لبناني) ..
لا أعرف لعبارة الجنجويد أصلاً في كتب العرب ولا في معاجمهم، وإنما أعرف لها فعلاً. فهي تعني في منبتها الأول، السودان، مجموعات من العوام مُستأجرة من السلطة ومُكلّفة القيام بمهام من أقذر المهام، بالفصحى يمكن القول أن هذه المجموعات من العوام تعيث في الأرض فساداً، ولكن هذه العبارة لا تحيط الإحاطة الكافية بما تكلف به هذه المجموعات السودانية الآن، وبما كُلفت به على الخصوص في حرب دارفور وهي الحرب التي كانت سبب شيوع شهرتهم. فلما عجز جيش البشير عن تأديب أهل دارفور الثائرين على السلطة المركزية في الخرطوم جراء الإهمال المتمادي لهم ولمطالبهم، لجأ البشير إلى قبائل سودانية تُعرف بالجنجويد للقيام بأقصى أنواع التأديب. مزق الجنجويد النسيج الاجتماعي والوطني لأهل دارفور عن طريق هدم مدنهم وقراهم، وتهجير سكانها وقذفهم إلى الصحارى البعيدة. ولم يكتفوا بذلك بل أمعنوا في ارتكاب الجرائم والموبقات على أنواعها ومنها الاعتداء على النساء وإتلاف المزروعات، ومع الوقت تحولت دارفور التي كانت قبل التحاقها بالسودان سلطنة مستقلة، أثراً بعد عين. ويبدو أن ما أنف الجيش السوداني من ارتكابه في دارفور، جرى تكليف الجنجويد به فقاموا بالمهمة على خير ما يرام.
ولكن هذا لا يعني أن إطار عمل الجنجويد محصور بالأرياف البعيدة، فكثيرًا ما تكلف بالعمل في المدن. وقد شوهدت حديثاً في الخرطوم وأم درمان عندما اضطلعت بدور بارز في فض اعتصام جماهير السودانيين أمام القيادة العامة. وكالعادة فتكت بمن أمكنها الفتك به، وعندما تعذر عليها اللجوء إلى المقابر الجماعية، كما كانت تفعل في دارفور، استعانت بالنيل فقذفت إليه ما لا يمكن إحصاؤه إلى اليوم من الجثث. ويتبين الآن أن الجنجويد ليسوا مجرد عصابات أو عناصر غير منضبطة، وإنما هم عملياً جزء من السلطة تديرهم كما تدير قوات التدخل السريع المعقودة اللواء منذ أيام دارفور إلى اليوم (لحميدتي) المطلوب مع البشير للمثول أمام محكمة الجنايات الدولية. ولكن بسبب تدني مستوى المهام التي يُكلفون بها، فإن باستطاعة السلطة أن تتبرأ منهم عند الضرورة أو أن تُحيلهم حتى إلى القضاء ولو صورياً، ولكن الجميع يعلمون أنهم، مع السلطة التي ترعاهم، معدن واحد وجوهر واحد.
ولكن الجنجويد وإن نُسبوا إلى السودان، موجودون في بلدان عربية عديدة وبخاصة في البلدان ذات الحكم الاستبدادي وحيث تشيع الطائفية والمذهبية.
وقد يحمل جنجويد هذه البلدان أسماء أخرى. ففي سوريا حمل جنجويدها إبان الحرب اسم الشبيحة، وفي العراق أكثر من جنجويد واحد، فهي بالعشرات. ويضم ما يُسمى (بالحشد الشعبي) ما لا يُحصى من منظمات الجنجويد.
وهناك جنجويدات أخرى مستقلة عن هذا (الحشد) ولكنها غير ذات سيادة لأن السيادة عليها لسواها. وتحمل هذه الجنجويدات في أقطار المشرق العربي اسم مليشيات، وهي عبارة مأخوذة من بلدان أوروبا الشرقية زمن الاتحاد السوفياتي، وكانت تضطلع بمهام الشرطة والدرك والأمن في مجتمعات مغلقة، لم يكن يسود فيها إلا القمع والهمس وتنزع من شعوبها أبسط ممارسات الإنسان، وحقوقه.
ولكن عبارة الجنجويد تُستعمل بالاسم في أكثر من بلد عربي خارج السودان منها لبنان. فزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط كثيرًا ما يصف بعض خصومه ممن لديهم سلاح ومليشيات بالجنجويد. وهو يستخدم هذه العبارة منذ أيام دارفور وصولًا إلى يوم فض اعتصام القيادة العامة، ورمي الجثث في النيل، فالجنجويد إذن عبارة عابرة لحدود السودان إلى سواه من البلدان وينتظرها مستقبل باهر، فمن يدري فربما تحل مستقبلاً محل عبارة المليشيا أو المليشيات وستحل بالفعل استنادًا إلى تراثها الفذّ، في الدم والقتل والذبح وافتقاد معجمها إلى عبارات تقدسها ضمائر شعوبنا ومنها الحرمة والحرام.
لا أعرف أصلاً لعبارة الجنجويد فأهلها لا أصل لهم ولا أصالة وهم قطعًا ليسوا عربًا، وليسوا على الأقل من عربنا كما كان يقول علي ناصر الدين رحمه الله ولكن للجنجويد أصلاً ثابتًا في تخلفنا وفي تردي أوضاع مجتمعاتنا وإيثارنا الارتباط بعالم القرون الوسطى وقيمها، ومعاداة العلم والحضارة الحديثة، وفي انتقالنا من حكم عسكري استبدادي إلى حكم عسكري استبدادي آخر يعجب من ثورة شعبية، تقوم بوجهه ويفاجأ بها، لأنه لم يتعود منذ أكثر من خمسين سنة إلا على رضوخ الشعب له، ولا يجد أمامه للتعامل مع هذه الثورة سوى جنجويده الذين كثيرًا ما قدموا له النجدة في ظروف كهذه الظروف!