الفكر النقدي للتراث في مسيرة طيّب تيزيني
تيزيني هو أول من أدخل مفاهيم المادية التاريخية في ميدان تحليل الفكر
رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط.. أول إبداعاته
بقلم – جهاد فاضل
يدور كتاب «طيّب تيزيني.. التراث والمستقبل» حول فكر الباحث والأكاديمي والمفكر السوري الكبير الدكتور طيّب تيزيني، أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، الذي توفي في مدينته حمص قبل أيام معدودة. الكتاب حصيلة ندوة فكرية أقيمت في كلية الآداب بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء حول طيّب تيزني الذي حضر الندوة بنفسه وشارك في أعمالها. الكتاب صدر في بيروت عن «منتدى المعارف» قبل أشهر قليلة من رحيل تيزيني.. ولا شك أن صدور هذا الكتاب في حياة طيّب تيزيني كان خير عزاء له في شيخوخته. عبدالقادر كنكاي مقدم الكتاب وعميد كلية الآداب التي كرّمت تيزيني يلاحظ غياب الفكر النقدي في العالم العربي شرقه وغربه. «لا يمكن أن ننكر أن للفكر العربي تقاليد مشهوداً بها في النقد واللوم الذاتي، غير أن هذا النقد كان في غالب الأحيان نقداً أيديولوجيا أو سياسياً أو طائفياً. والحال أن الإنسان العربي يحتاج بخاصة إلى النقد الفلسفي، إلى نقد المفاهيم والمسلمات والمعتقدات والصور الراسخة عن الذات وعن الآخر معاً. فلا مناص من الفلسفة لإعادة بناء الإنسان وترتيب البيت الداخلي للمجتمعات العربية بروح من النقد والعقلانية والحرية والحوار والتسامح».
وشمل برنامج الندوة مداخلات عدة لباحثين وأكاديميين مغاربة هم: عبدالإله بلقزيز «محرر الكتاب» ومحمد مزوز وعبداللطيف فتح الدين والمختار بنعبدلاوي ونبيل غازيو ويونس رزين وعبدالمجيد الجهاد وأحمد الصادق ومعزوز عبدالعلي وعبدالصمد بلكبير الذين أشادوا جميعاً بمشروع طيّب تيزيني لدراسة الفكر العربي في العصر الوسيط، وكذلك لدراسة جوانب من الفكر العربي المعاصر «نقد طيّب تيزيني لمحمد عابد الجابري»، وفي الكتاب بحث بعنوان «تيزيني والتراث اليهودي» وكل هذه العناوين تدل على سعة أفق الباحث السوري الكبير والمهمة التي تصدى لها.
يعترف د. عبدالإله بلقزيز بأمانة المؤرخ «إن الدكتور طيّب تيزيني هو أول من جَرُؤ على إدخال مفاهيم المادية التاريخية في ميدان تحليل الفكر، في دائرة الفكر العربي، وعلى نحو خاص، ميدان دراسات التراث، وأول من أخذ الماركسية العربية إلى ممارسة فضول معرفي ضروري تجاه التراث الإسلامي. جذف ضد تيار غالب في تلك الماركسية، المسكون بالعلموية والوضعانية، لم يلحظ مكانة للتراث والماورائيات في جدول أعماله المزدحم بقضايا الثورة والتقدم والمستقبل، بما عناه ذلك من إعراض كامل عن الماضي وأسئلته. كان ذلك عندئذ، قبل 45 عاماً، أشبه بالمغامرة التي لم يكن منها بدّ من أجل تهوية مجال الدراسات التراثية المختنق يومها بالرؤى والمناهج التقليدية، ومن أجل تزويد النظر العلمي إلى الفكر وتاريخه بأدوات مفهومة جديدة مناسبة.
وما إن دشّن طيّب تيزيني هذه المدرسة، في دراسات تاريخ الفكر، حتى التقاها في منتصف الطريق باحثون ماركسيون عرب كُثُر أظهرُهم وأشهرُهم الشيخ الجليل الشهيد حسين مروّة الذي وضع التأليف الثاني الشامل – بعد مشروع رؤية جديد..- في أجزائه الأربعة تحت عنوان: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية.
قبل طيّب تيزيني جرّب باحثون عرب كثُر أن يستدخلوا مفاهيم المادية التاريخية في تحليل الإنتاج الفكري والثقافي. فعل ذلك، مبكراً وقبل تسعين عاماً، الباحث الفلسطيني بندلي الجوزي، المعدود مستشرقاً عند كثيرين، في دراسته التأسيسية عن تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام. وكرر المحاولة نقاد الأدب الماركسيون العرب مثل الراحل الكبير محمود أمين العالم في عمله على الإنتاج الثقافي والأدبي العربي الحديث. كما أن المفكر الراحل أنور عبدالملك شغّل بعض تلك المفاهيم في تحليله فكر النهضة في القرن التاسع عشر.
لكن تيزيني وحده من توسّع في استخدام المفاهيم الماركسية في تحليل تاريخ الفكر، ووحده من نقل تلك المنظومة إلى منطقة الممنوع والمحظور، ووحده من أنتج رؤية متماسكة إلى التراث وصلته بالمستقبل.
وَلَجَ طيّب تيزيني ميدان الكتابة والتأليف من الباب الصعب، مختاراً الخيار الصعب. الباب الصعب قطعاً هو التراث الفكري الكلاسيكي، أو الوسيط كما سمّاه في عنوان كتابه الأول. وهو صعب لأن الاشتغال بتراث الإسلام يتطلب من الباحث مجهوداً عزيزاً وصبراً جميلاً في قراءة مئات بل آلاف المصادر الفكرية في الفلسفة والكلام والتاريخ وأصول الفقه والتصوف ودراسات من درسوها من الباحثين العرب والمستشرقين، مع ما يقترن بتلك القراءة من معاناة وجوهٍ مختلفة من مشكلات الاتصال بالنصوص القديمة ولغتها ونظامها المفهومي وصلاتها المعلنة والمضمرة بنصوص تراثات أخرى سابقة: هلّينية وهلّينسيّة وهندية وفارسية ويونانية. ويزيد معدل الصعوبة في ولوج التأليف من هذا الباب إن أخذنا في الحسبان أن متنورة الباحثين فيه قلة في ذلك العهد، وأن التقاليد العلمية فيه لم ترسخ بما يكفي، بحيث يُطمأنّ إليها ويُبنى على سوابقها، وإنما الغلبة فيه إلى التقليديين كانت، والسطوة لمناهجهم البائدة تقررت واستتبّ لها الأمر، خاصة بعد أن فشت فشوّاً مروّعاً في البيئات الجامعية، كما في المناهج التدريسية.
ونفهم من الكتاب أن طيّب تيزيني أخرج كتابه الأول في العام 1971 وعنوانه «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط» فكان إعلاناً عن بُغيته في ابتناء رؤية جديدة إلى التراث، خاصة فيما عرضه في كتابه الآخر «من التراث إلى الثورة» من مفاصل ذلك المشروع/ الرؤية في هندسة شاملة له اقترح لتنفيذها اثني عشر جزءاً.. وهو بالمقاييس جميعها، الأضخم حجماً بعد مشروع «التراث والتجديد» لحسن حنفي الذي صدر منه حتى الآن ما يجاوز العشرين جزءاً.
مع الوقت كانت كتابة طيّب تيزيني تتخفف من ثقل التحليل المادي والطبقي لتنتبه أكثر لزمنية الفكر والمعرفة، وهي غير زمنية الظواهر الاقتصادية والاجتماعية، فكان ذلك ترشيقاً منه لجهازه النظري، وترشيداً لرؤية تبحث في الفكر لا في شروطه الخارجية.
ويرى عبداللطيف فتح الدين أنه يكفي كتاب تيزيني (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط) فخراً أن أفلح صاحبه في شيء واحد على الأقل تشويق القارئ إلى قراءة كتب التراث ومصالحته مع هذه الكتب التي كادت أن تصير مهجورة، اللهم إلا ما كان منها موافقاً لخدمة الأغراض السياسية لبعض حركات هذا العصر، وما أضيقها أفقاً وما أشدّها اختزالاً!.
أما ما عداها من كتب أخرى، فلعلّ صرخة محمد عبده في بداية القرن العشرين لا زالت صالحة لأن نتمثل بها في هذا المقام. يقول محمد عبده راثياً حال تراثنا متحدثاً عن «كتب التراث النفيسة المستودعة بخزائننا التي أصبحت اليوم أكلة للسوس وفراشاً للتربة، لا نمد أيدينا لنستلبه منها أو لنزعج السوس عن أكلها وإتلافها. أنفس ما فيها فر من بين أيدينا ورصعت به خزائن أمم أخرى أصبحت الآن تنعت باسم النور، ولو طلبناها لم نجدها»!.
اختار طيب تيزيني إذن مرتقى وعراً وهو يفصح عنه، إذ أوجب على نفسه ما ذهل عنه غيره من الدارسين: التمكن من علوم شتى متكامل في تمام التحليل للعلاقات المادية والفكرية للتراث العربي الوسيطي. وما يزيد وعورة المرتقى هو البحث في البدايات الضاربة في القدم التي أسست لمدة مديدة حققت الكفاية التاريخية البنيوية للتجلي الطبيعي لهذا التراث.
لم يغفل طيّب تيزيني عن واقعه على الرغم من أنه تلقى تكوينه الأكاديمي بألمانيا بل ظلت جدلية الواقع والفكر قائمة عنده وأثرتها النظرة التي اتخذها من التراث حين اعتبره شهادة موثقة للجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فكانت المادية الجدلية وسطاً بين المثالية المغرفة في التنظير وبين المادية الذاهلة في التفاصيل.
وقد حمل تيزيني على المشتغلين بشأن التراث العربي في القرن العشرين من المفكرين العرب المعاصرين مثل سلامة موسى وعباس محمود العقاد، كما حمل على المستشرقين وسواء هؤلاء أو أولئك فإن ذهولهم عن التعامل البنيوي مع التراث العربي الإسلامي يجعلهم يعمدون إلى فصل الفكر عن الواقع الذي نتج متمازجاً معه كما يعيب عليهم إيثارهم الانتقاء الذي يضر بالفهم الناتج عن العلاقات بين أطراف التراث ككل مكثف يفرض على الدارس فك خيوطه المتشابكة بتؤدة وثقافة ذهن وأنهم تناسوا قسطاً منه عمداً ويضيئون غيره بدافع ايديولوجي، وذلك بحيث يمسي معهم التراث بضاعة متصرفاً فيها وفق المقاس.
وعوض تسخير التراث ايديولوجياً على هذا النحو وجب إعمال الايديولوجيا التي كانت إبان إنتاج التراث قصد تحليل البنى الاجتماعية الاقتصادية والسياسية وإلا فإنهم ينتجون فهماً لفكر لا إنساني إذ هم فصلوه عن واقعه، فضلاً عن إنضاجهم رؤية إلى تراث متخيل إن هم آثروا الانتقاء.
لكن تيزيني لم يكتف بمجرد نقد الدراسات المعاصرة وتبيان مناقصها القاتلة بالمعنى العلمي فبدلاً من أن يخلي بينه وبين الأخطاء الجليلة التي وقعوا فيها انبرى يحث على منهجه الذي اختاره ليس تحكماً وإنما مبيناً عن قوته العلمية في التعامل الجدلي مع التراث وعلائقه الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية حتى يتم تقفي هذه الجدلية بين الواقع والفكر عبر التاريخ العربي لينفتح إمكان الفهم الدقيق لحاضرنا فهماً بنيوياً تنفك بموجبه ملغزات امتداد التراث في الحاضر فكراً وواقعاً.
ولا يفتأ تيزيني يجود على القارئ بنتائج مفاجئة بفضل عنايته وإخلاصه للمنهج الذي اختاره في دراسة التراث العربي الوسيطي، حيث النظر البنيوي للفكر وواقعه الذي تمازج معه ومن هذه النماذج المفاجئة إنزال الفكر الاعتزالي كفلسفة سابقة لظهور الكندي الذي يعده كثير من الباحثين أول المتعاطين للفلسفة حيث وجد الكندي الأرض مهيأة للفلسفة ويعد تيزيني أنه من الخطأ الفصل بين الفلسفة وعلم الكلام في هذه المرحلة من التاريخ.
وبغير أن يبخس الكندي حقه فإنه يقر له بأنه أدخل كثيراً من المعجم الفلسفي في اللسان العربي، ولعب دوراً كبيراً في إدماج الفكر اليوناني داخل العالم الإسلامي حيث كانت هذه أغنى مرحلة إسلامية في الشرق فكراً واجتماعاً اقتصادياً وسياسياً.
تلك كانت إذن الخطوط العريضة التي أمكن الباحث الدكتور عبداللطيف فتح الدين أن يجمّع منها خيطاً خيطاً وهو يقرأ كتاب تيزيني المعنون مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط وهو كتاب مكثف ومعمق كما يصفه ولكنه في أثناء قراءته لهذا الكتاب ألح عليه سؤال أخذ بمجامع فكره، وهو:
إذا كان العماد الأصفهاني قد قال إني رأيت أنه ما كتب أحدهم في يومه كتاباً إلا قال في غده لو غُيّر هذا لكان أحسن ولو زيد ذاك لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك ذاك لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر» ماذا لو أعاد تيزيني الآن قراءة كتابه هذا ما الذي يمكن أن يحتفظ به منه وما الذي يمكن أن يستغني فيه منه؟.
هذا هو السؤال الذي طرحه عبداللطيف فتح الدين في مداخلته يوم الاحتفاء بطيب تيزيني والذي لا يضم الكتاب جواباً لطيب تيزيني عنه ولكن فتح الدين يضيف:لا شك عندي أن ثمة تناغماً بين الرؤية التي ارتضاها المؤلف – أي تيزيني- والمنهج الذي اصطنعه غير أن المشكلة عندي تكمن في النتائج المنتهى إليها: أليس من العسف المنهجي أن نقسم فلاسفة الإسلام إلى «ماديين» «ثوريين» وإلى «مثاليين» «رجعيين» في حين أن الفيلسوف الواحد قد تتفاوت آراؤه في المصنف الواحد؟ فضلاً عن أن ما كان «تقدمياً» في زمان قد يبدو رجعياً في زمان آخر؟ هل يعد مشروعاً ألا نطبق الجدل على نفسه فننظر إلى فلاسفة الإسلام في كل الأزمان نظرة واحدة! خذ مثلاً ابن رشد الذي لطالما عُدّ نموذج الفيلسوف التقدمي هل من التقدمية في شيء أن يذهب إلى تكفير بعض المتأولة للنص الديني الخارجين على القواعد التي وضعها للتأويل؟ وهل من «التقدمية» في شيء أن يفرض على من عدهم قوماً غير متحضرين حرباً عادلة في كتابه «جوامع سياسة أفلاطون».