المحليات
تأملات قرآنية .. أبو الحسن علي الحسني الندوي

الصلة الدائمة بين الدين والمدنيّة والمُجتمع

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، سورة المائدة : آية 3 .

إن الله منّ على المسلمين بالنعمة العظيمة الجليلة بإكمال هذا الدين وختم النبوة والرسالة فهو من أكبر النعم والضمان الأكبر للحفاظ على الشريعة الإسلامية وصيانتها ووحدة الأمة، واجتماع كلمتها، ولم ترزق أي أمة من الأمم هذه النعمة الجسيمة ولم تخاطب بهذا الإعلان الكبير، وقد قال عالم يهودي متحسراً على عدم إدراك اليهود لهذه النعمة – لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً).

وقد تعرضت الملل والشرائع السماوية السابقة لعدم وجود هذه النعمة لمختلف الابتلاءات والمحن وظهر فيها المتنبئون في فترات مختلفة، وشغلت عقول علمائها ورجالها وصلاحياتهم وقواهم بالرد عليهم وتفنيد دعواهم، وقد صرّح بذلك واعترف به كتاب البحوث العلميّة عن اليهودية والنصرانية في الدائرة البريطانية والموسوعة اليهودية.

ثم إنه ينافي هذا الإعلان بهذه الثقة والمنّة والتكريم لهذه الأمة الأخيرة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) إنه ينافي روح هذا الإعلان وطبيعته ومتطلباته وتأثيره العقلي والنفسي، أن يرتد من بشر بهذا الإعلان وأكرم بهذا الفضل وخلع عليهم هذا اللباس في حَجّة الوداع حين وقوفهم فيها بعرفات مع نبيهم مباشرة ويختار طريق الكفر والردة وجحود النعمة، إن الله عز وجل الذي يعلم الغيب ويعلم المستقبل كما يعلم الماضي لم يكن ليعلن هذا الإعلان ويبشر بهذه النعمة لو كان الأمر كذلك.

وقد نصّ القرآن الكريم على كونهم (يدخلون في دين الله أفواجاً) ولكنه لم يذكر في أي موضع من كتابه: يخرجون من دين الله أفراداً.

إن قوله تعالى «أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» يقتضي منا أيضاً أن نقف عند حدود الله تعالى ونتمسك بشريعته في الأخلاق والاجتماع والمدنية والحضارة فضلاً عن المعتقدات والعبادات، ونحصر أنفسنا في دائرة التعاليم الإسلامية والقيادة القرآنية وخطوطها ومعالمها الواضحة، ولا يجوز لنا أن نحاكي الغرب حضارياً ومدنياً وأن نكون ظلاً ملازماً له، فقد رزقنا الله تعالى مع الأسس والمعتقدات والمبادئ نظاماً كاملاً مستقلاً للمعاملات وحضارة متميّزة فريدة ومدنيّة صالحة مستقيمة يجب أن نتمثل بها تمثيلاً صادقاً خصوصاً في هذا البلد الذي كان ولا يزال مركز الإسلام منه طلعت شمس الهداية وانتشر الإسلام وفيه يستقر وإليه يعود.

 

الدين والمدنيّة

إن الدّين إذا جرّد عن المدنيّة، وقد جرّد كثيراً في التاريخ، وتكررت هذه التجربة في فترات كثيرة، كان دينًا لا حضارة، كان دينا لا اجتماع، كان دينا لا حياة، فهو كطائر مقصوص الجناح منتوف الريش لا يستطيع أن يطير ويحلق في الأجواء، إنه طائر يرفرف ويضطرب، فهو أشبه ببلبل في قفص من ذهب، وإن كان بلبلاً غِرّيداً أو عندليباً ساجعاً مترنماً، أما الدين الحقيقي فهو الدين الذي يطير بجناحيه في أجواء من المعاني وفي أجواء من الأخلاق والمعاملات والسياسة والمدنية وهو يسبك الحياة سبكاً مطابقاً لعقيدته ولما يدين به، ظهر الإسلام فأنتج حضارة كاملة بحذافيرها، حضارة زاهية زاهرة، حضارة حكيمة عادلة، حضارة مؤسسة على توحيد الله تبارك وتعالى والإيمان به وعلى ذكر الله تعالى، واستحضار قدرته واستحضار الآخرة والإيمان بأن الآخرة خير من الأولى، مؤسسة على العدل الاجتماعي وعلى الاحترام للإنسانية والرحمة بها، وعلى الجمع بين الواجبات والحقوق في وقت واحد، والأخذ والعطاء والإفادة والاستفادة في حين واحد، وعلى الاعتراف بقيمة الإنسان أياً كان وأينما كان.

الحضارة قامت على أساس العقيدة وعلى أساس التربية الإلهيّة والنصوص القرآنية السماوية وعلى أساس السيرة النبوية وأسوة الصحابة رضي الله عنهم، فكانت أزهى حضارة وأفضل حضارة جرّبها الإنسان، ظهرت هذه الحضارة في الحجاز أولاً في مدينة الرسول وفي مهجره صلى الله عليه وآله وسلم ثم خرجت من حدود المدينة وغزت العالم كله، وما دخلت في بلد من البلاد إلا وخضع لها أهله طواعية لا كراهية وتغلغلت في أحشاء البلاد أو المجتمع الذي فتحته، وتعلمون أن أمة إذا فتحت عنوة بحد السيف فإنها تبغض الفاتحين، هذه تجربة التاريخ المتصلة المتكرّرة، ولكن الحضارة الإسلامية وقعت من قلوب المواطنين موقع الحبيب وقبلتها البلاد وضمتها إلى صدرها، لأنها كانت حضارة طبيعية عادلة عاقلة مؤسسة على مبدأ المساواة الإنسانية ومبدأ الرحمة بها وإخراج الناس من حكم العباد إلى حكم الله تبارك وتعالى ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

فكل دين يجرّد من الحضارة، دين صائر إلى الانقراض ومصيره الزوال السريع، وكل دين يرضى أهله بهذا الموقف الضعيف المتخاذل فيرضون من الدين بالعقيدة ولا يلحون على مدنية خاصة هي نتاج هذا الدين ويقتبسون أو يستوردون مدنية خاصة هي نتاج هذا الدين ويقتبسون أو يستوردون مدنية أخرى هي وليدة بيئة أخرى وسليلة ديانة أخرى ونتيجة أحداث وعوامل مرت بها أمة خاصة، أو بلد خاص، فإنهم يفقدون مع الأيام ومع تيار الزمان شخصيتهم، ويفقد الدين الذي دانوا به السيطرة على نفوسهم وعقولهم ويكونون صورة صادقة أو نسخة مطبوعة أمينة للأمة التي تطفلوا على مائدتها واقتبسوا منها الحضارة ونمط الحياة، وهذا ما نتخوّفه اليوم على العالم الإسلامي الذي يقتبسُ من الغرب مدنيته وأساليب حياته.

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X