ترجمات
مُهدّدة بالانقراض ولحاؤها كان علاجاً للملوك

كيف أنقذت شجرة ملايين البشر من الموت؟

ازدادت قيمة لحاء الكينا حينما هدّدت الملاريا الجيوش الأوروبية بالقرن التاسع عشر

أعدادها كانت بالآلاف على سفوح جبال الإنديز لكن لم يتبق منها سوى 29 شجرة

الدوحة – الراية:

في بيرو وسط غابة من الأشجار الكثيفة توجد واحدة من أشجار سينشونا أوفيسيناليس القليلة المتبقية المُهدّدة بالانقراض، وهي أشجار رفيعة يصل طولها إلى 15 متراً، وموطنها سفوح جبال الإنديز. وقد ساهمت في تغيير شكل تاريخ البشرية لقرون. ونسجت حولها أساطير عديدة.

وتقول عنها عالمة بيولوجيا بالمتحف الوطني في الدنمارك «ناتالي كانالز»: إن هذه الشجرة مكانها الأصلي منطقة غابات الأمازون في بيرو، حيث إن المُركّب الذي يُستخرج منها أنقذ حياة الملايين. ويُستخرج من لحاء هذه الشجرة النادرة (المُهدّدة بالانقراض) مادة الكينين، التي تعد أول عقار لعلاج الملاريا في العالم. وقد أصبحت هذه المادة الطبية محل جدل عالمي واسع بسبب تفشي كورونا. وروّج البعض للبدائل المُخلّقة معملياً لمادة الكينين، مثل كلوروكين وهيدروكسي كلوروكين، كعلاجات مُحتملة لفيروس كورونا المستجد .

ويُعد مرض الملاريا، الذي تسبّبه طفيليات ينقلها البعوض بين البشر، من أكثر الأمراض فتكاً في تاريخ البشر، إذ اجتاح الإمبراطورية الرومانية منذ قرون عدة وأودى بحياة ما يتراوح بين 150 إلى 300 مليون شخص في القرن العشرين. ويُقال إن لحاء سينشونا أوفيسيناليس، الذي يُعد أول علاج معروف للملاريا، اكتشفت في جبال الإنديز في القرن السابع عشر. ويقتل الكينين، وهو مُركّب شبه قلوي، بالفعل الطفيلي المُسبّب للملاريا، واستخدم الكينين في فرنسا لعلاج الملك لويس الرابع عشر من نوبات الحمى. وأجرى طبيب البابا في روما تجارب عن مسحوق الكينين ووزّعه الكهنة اليسوعيون على الجمهور مجاناً. وأدرجت كلية الأطباء الملكية لحاء الكينا في دستور الأدوية البريطاني كعقار رسمي في عام 1677.

ولتلبية الطلب المُتزايد على مادة الكينين، استعان الأوروبيون بالسكان المحليين للبحث عن شجرة سينشونا أوفيسيناليس، أو الكينا، في الغابات المطيرة والحصول على لحائها وتحميلها في سفن نقل البضائع في مرافئ بيرو. وما لبثت أن أصبحت الشجرة نادرة.

وارتفعت قيمة لحاء الكينا في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع التوسعات الاستعمارية، حين أصبحت الملاريا من المخاطر الكبرى التي تهدّد الجيوش الأوروبية في المُستعمرات الأجنبية. وبات الحصول على مادة الكينين أحد المزايا الاستراتيجية في السباق نحو الهيمنة العالمية. ومن ثم أصبح لحاء الكينا أحد أكثر السلع طلباً في العالم. وعلى الرغم من ظهور عقار «أرتيميسينين»، في السبعينيات من القرن الماضي كعقار بديل لعلاج الملاريا، إلا أن الطلب على مادة الكينين ترك إرثاً لا يزال واضحاً في مختلف دول العالم. إذ حوّل الهولنديون مدينة باندونغ عاصمة جاوة الغربية في إندونيسيا إلى أكبر مركز عالمي للكينين.

ولعبت مادة الكينين دوراً كبيراً في انتشار اللغة الإنجليزية في الهند وهونغ كونغ وسيراليون وكينيا وسريلانكا، واللغة الفرنسية في المغرب وتونس والجزائر. وفي غمرة البحث عن مادة الكينين في منتصف القرن التاسع عشر، حصلت بوليفيا وبيرو على حق احتكار تصدير لحاء شجرة الكينا. وأنفقت بوليفيا أرباح صادرات لحاء الكينا على إقامة كاتدرائية مدينة لاباز ورصف شوارعها الحجرية وبناء ميادينها الواسعة في قلب المدينة التاريخي.

غير أن الطلب المُتزايد على لحاء الكينا خلّف ندوباً واضحة على موطن الشجرة الطبيعي. ففي عام 1805 سجّل المستكشفون 25,000 شجرة كينا على سفوح جبال الإنديز في الإكوادور، لم يتبق منها الآن في نفس المنطقة سوى 29 شجرة.

وتقول كانالز: إن إزالة الأنواع الغنية بمادة الكينين من شجرة الكينا في جبال الإنديز أدى إلى تغيير التركيبة الجينية للنبات، وأضعف قدرته على التطور والتغيير. وترى أن أشجار الكينا أصبحت تحتوي على نسبة أقل من الكينين بسبب الحصاد الجائر. وتقول كانالز: إن اكتشاف عقاقير جديدة في المُستقبل يتوقف على حماية أشجار الكينا والموطن الأصلي لهذه الأشجار الغنية بالتنوع الحيوي.

العلامات
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X