بالقلم الشفّاف.. التخطيط العمراني والصحة العقلية
تلاشي الساحات الخلفيّة والحدائق في البيوت بسبب صغر المساحات

ما زلتُ بصدد البحث عن كلّ ما يمكنُ أن يُعيدَ التوازنَ لحياة الإنسان، ذلك الذي تقاذفته رياحُ التمدّن والأوبئة والثورات الصناعيّة، والتلوّث والاحتباس وغلاء المعيشة وزحمة الطرق، ماذا سأعدّد؟ لا سبيلَ لحصر الأيادي التي تسحب روح الإنسان وتجعله مجرّد جثة مُلقاة على مقعد السيارة تذهب لعملها كل يوم وتعود بالكثير من الإحباطات والشّتائم. وبين يدي اليوم دراسة قامت بها جامعة جيرفث لا تتحدث عن أضرار السمنة بسبب قلة الحركة ونمط الحياة ولا عن السرطان بسبب التلوّث والإشعاعات، بل تجاوزت الدراسة لحصر نسب ارتفاع الاضطرابات الذهنيّة في المجتمعات اليوم بسبب التخطيط العمراني للمدن. وجدت الدراسة أن الاستمرار في العيش في المدن يزيد خطر الإصابة بالقلق بنسبة ٢١٪، واضطرابات المزاج والأمراض الفصامية كالاضطراب الوجداني ثنائي القطب بنسبة ٣٩٪، والاكتئاب بنسبة تفوق ٤٠٪.
كما أن تلاشي الساحات الخلفية والحدائق في البيوت بسبب صغر المساحات مع مرور الوقت كان سببًا إضافيًا لزيادة هذه الأعداد. بالإضافة للازدحام المروري والضوضاء والأضواء والعزلة الاجتماعية، كل ذلك موجود في المدن، ويزيد من احتمالية التأثير السلبي على سلامة أذهان الجميع وصفاء التفكير.
لا نستطيع أن نرمي بهذه الأحمال على كاهل المُصمم، فليس له ذنب في ذلك، ولكن تستطيع الجهات المسؤولة عن التخطيط العمراني في المدن تفادي مثل هذه المشكلات في المستقبل، وقد اقترحت الدراسة أن التواصل الاجتماعي الحقيقي عامل مهم للتخفيف من الضغوط والتخلص مما قد يُسمم الأذهان، وقد يكون التحدث إلى الغرباء أمرًا مريحًا أكثر من الحديث مع العائلة أو الأصدقاء. لذا من ضمن تلك المُقترحات وجود أماكن زراعية للتلاقي بالصدفة في المنشآت التي تتطلب فترة طويلة من الانتظار وتوفير الخدمات للجلوس فيها والتعرف والحديث بدلًا من صالات الانتظار المملة والباعثة للقلق في منشآتنا اليوم. ووجود أيضًا قاعات في منشآت العمل أو حتى في الحدائق العامة أو بين المنشآت عازلة للضوضاء والحرارة والضوء للاسترخاء والتمدّد والأحاديث العابرة.