بقلم/ بابكر عيسى أحمد:
أعلم أن المخاض عنيف، وأعلم أن الميلاد مقرون بمعاناة حادة تحتاج إلى إرادة وإلى قدرة على تحمل الألم ومواجهة العقبات والمحن بالصبر والمصابرة، وأعلم أن ميلاد السودان الجديد لن يكون سهلًا ولا ميسورًا حيث إن هناك قوى ظلامية لا تريد لهذا الوطن أن ينهض من جديد، ويلحق بركب الأمم والشعوب التي سبقتنا خطوات واسعة على طريق التنمية والتقدم والنماء.
أعلم أننا نملك الكثير من الإمكانات والقدرات والسواعد المؤهلة التي يمكن أن تبني المستقبل لوطن قديم جديد، لا ينقصه شيء سوى الإرادة الجماعية والاتحاد تحت راية الوطن بعيدًا عن الأجندة الضيقة والتطلعات الكسيحة، والأمراض المزمنة المتمثلة في العنصرية والكراهية والتعصب القبلي، والأوطان لا تبنيها هذه الأمراض العليلة، ويجب أن يتم التعافي وتتحقق الوحدة لننطلق إلى الأمام، إلى آفاق أرحب وأوسع، وأن يولد أطفال أصحاء وبنات وبنون لينهلوا من العلم والمعرفة ويترجموهما على أرض الواقع المعطاء.
أعلم كما يعلم غيرى أن خفافيش الظلام لن يسمحوا لتلك المسيرة أن تنطلق، حيث سيضعون كوابح كثيرة تعرقل المسار، بعضها له أسباب موضوعية وأغلبه مستورد عبر الحدود والمنافذ البرية والبحرية، وهؤلاء الناس لا يحبون الوطن مثلما يحبه الجميع، وحتى هذا الجميع بات عرضة للاستهداف والتشظّي واللعب عليه من مختلف الدروب والمسارات والأقنية.
هذا الذى يحدث من إرباك عام في المشهد السياسي وتعطيل مسار التحول الديمقراطي المدني كان متوقعًا، فالمراحل الانتقالية عادة ما تتسم بالهشاشة التى تستغل لإضعاف النفوس والعبث بالوجدان القومي وتمزيق ماهو موحد لمصلحة أجندة حزبية ضيقة وبائسة وفقيرة، ويتفرق الناس إلى جماعات وأكوام وفرق، وترتفع أصوات التخوين لتعطل المسير إلى الأمام والانطلاق نحو أفق جديد نحلم فيه بسودان جديد.
كيف لنا أن نخرج من هذا النفق المظلم، وقوى سياسية تشارك في المشهد السياسي وتتآمر عليه من الداخل؟ وما حدث في قاعة الصداقة في ذلك السبت ليس ببعيد وسبقته المحاولة الانقلابية البائسة، التي وصفتُها في مقال سابق أنها مجرد بروفة لانقلاب جديد يخطط له الفلول والذيول والأذناب.. وقد خرجت الجماهير في مسيرات مليونية لتؤكد للجميع أن الردّة مستحيلة، وأنه لا نكوص ولا رجوع للوراء عن مبادئ الثورة الباذخة، والشامخة في صدور أبناء الشعب السوداني النبيل الكريم الشجاع.
عندما بدأت مسرحية الشرق البئيسة وظهر (ترك) كظاهرة كونية فريدة تيقنًا أن وراء الأكَمَة ما وراءها، فالرجل الذى يزعم أنه يتحدث بلسان أهلنا في الشرق ويتحدى سلطة الدولة بعنترية كاذبة كان يتكئ على وعود هي أيضًا كاذبة، وليس من حق إقليم أن يحدد مصير وطن ويمارس البلطجة ويدّعي أن له الحق في الإملاء على الآخرين.
الذين يشكلون اللجنة الأمنية لنظام المخلوع البشير ويجلسون على مقاعد السيادة في القصر الجمهوري يتناسوْن أن التاريخ يسجل كل السقطات من تأجيل تكوين المجلس التشريعي وغياب العدالة وإعادة هيكلة القوات المسلحة، وتسليم المطلوبين للعدالة الجنائية الدولية، ويسكتون عن الهوان والصمت والمهانة التي تحدث في شرق السودان، لاسيّما أنهم القوة المنوط بها حفظ الأمن والاستقرار حسب المتعارف عليه دوليًا وحسب ما نصت عليه الوثيقة الدستورية الموقعة بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير.
يجب ألا ينسى الجالسون على مقاعد السلطة العليا في البلاد أن التاريخ يسمع ويرى ويرصد المواقف والأفعال وحتى الصمت القابع خلف الأبواب الموصدة، فذاكرة الشعب ليست خربة ووعي الجماهير يتابع كل الخطى إلى أين تسير، وسيُساءلون عن كل هذا الذي فعلوه وخططوا له ونفذوه، ليقولوا لنا بعد ذلك أنه قد (حدث ما حدث) ودماء شهدائنا لم تجف بعد، وعشرات المفقودين والذين دفنوا في مياه النيل مازالوا يصرخون بالعدل والقصاص، ويطالبون بإدانة ومحاكمة كل من شارك في جريمة فض اعتصام القيادة.
لحقت بكل هذه الملهاة مسرحية الجماعات الإرهابية في قلب الأحياء السكنية لترويع المدنيين، وخلق حالة من الرعب والبلبلة وعدم اليقين علمًا بأن تقارير تشير إلى معرفة أجهزة الاستخبارات بتواجد هذه الجماعات وأنه تمت مخاطبة النائب العام بنحو سبعة أشهر لإعطاء الإذن بالمداهمة وضبط المتطرفين.
مادام هَمُّ الكثيرين على اختلاف مشاربهم هو السلطة والثروة وأشياء أخرى لماذا لا يصار إلى نموذج «الولايات السودانية المتحدة» الذي كتبت عنه في هذه المساحة الأسبوع الماضي، وأن يتفرغ الجنرالات والساسة لبناء سلطة مركزية قادرة ومقتدرة تحمي البلاد والعباد.
الذي يذهلني في هذه الملهاة هو الهجوم الشرس الذي تتعرض له «لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال المنهوبة» وأعتقد أن لكل أسبابه وحججه أيًّا كانت هشاشتها، فالبعض يحاول الدفاع عن رفاقه الذين أجرموا في حق الوطن، وآخرون تلوثت أيديهم بالمال الحرام سواء في الشرق أو في الوسط ومازال الكثيرون منهم هاربين خارج حدود الوطن ويأكلون في بطونهم السحت، والآخرون يحلمون بالخروج من السجون ليستمتعوا بأموال الشعب المنهوبة في المصارف الأجنبية.
إن الشارع السوداني الذي تجرّع الهوان والمذلّة على امتداد ثلاثين عامًا لن يتنازل عن حقوقه ولهذا أصبحت «لجنة إزالة التمكين» خطًا أحمر لا يستطيع أحد أن يتجاوزه أو يقفز عليه مهما تكاثر الطامعون والهواة.
و أقول أخيرًا: إن الوطن الذي نحلم به والسودان الجديد الذي نتطلع إليه لن نبلغه إلا بالوحدة والتكاتف وإسقاط التناقضات الثانوية لمصلحة التناقض الجوهري والأساسي وهو هزيمة الفلول ودحرهم وإبعادهم عن المشهد السياسي وإلى الأبد.
و يقول الشاعر:
من جرّب الكيّ لا ينسى مواجعه
ومن رأى السم لا يشقى كمن شَرِبَا
ونسأل الله السلامة لوطننا ولشعبنا الباسل الجسور.