كتاب الراية

خواطر ….اِنشغالٌ فارغ

بِتنا نتهيّب الزيارات ونُفضّل اللقاء في المطاعم والمقاهي

مَن منّا لا تُرهقه التفاصيل التي يظنّها عاملًا أساسيًّا في اكتمال الأشياء؟ كالمظهر، وتنميق الكلام، الحضور والاستقبال، الولائم، الحقائب، الهدايا، التحف، الخزائن، السياحة.. كلها أشياء مهمة بالنسبة لنا، ولنضع تحت «لَنا» خطًّا عريضًا، لأننا نُعقّد الأمور ونُفسِد متعتنا بلا داع.

بِتنا نتهيّب الزيارات، ونُفضّل اللقاء في المطاعم والمقاهي، خاصة إن كُنّا المُضيفين، فالإعداد لباقات الزهور والشموع ومفارش الموائد، صار يأتي بالتوازي مع قائمة الطعام، التي تضمّ الهند والصين وأوروبا بشرقها وغربها، بعيدًا عن فُرْقة السياسة المقيتة، فإكرام الضيوف وتدليلهم، عادة عريقة ومحمودة فينا، حتى لو كانت على حساب صحّتنا وميزانيتنا، وكلّما زادت المحبّة بيننا، صار الطعام أشهى والحديث أنقَى، وطال القعود لِما بَعدَ العود.

أشُكُّ بأنّ تلك التفاصيل تُبْهِرُ الضيوف بِقَدرِ اللقمة الشَهِيّة، كما أن الفاتورة تُعكّر صفو الأزواج، أمّا الأبناء فيتفننون بنشر الصور عبر الانستغرام، بلا أدنى تفكير بالعواقب، فالبركة نعمة كماء السماء، تحتاج لمن يُحْسِن حفظها.

وبعد تنوع البرامج التلفزيونية، بين السياسة والرياضة والعلوم بكل أشكالها وأفرعها، لم أعد أستوعب كميّة برامج الطهي ومسابقات الطهاة، وفي ظِلِّ تزايد الفضائيات، أصبحت بالكاد أتذكر القنوات، ومواعيد البرامج المُفضّلة، فالإنترنت مارِدٌ يُلبّينا بلمسة وقتما نشاء.

وفي الوقت نفسه بَهتَتْ هيبة الحلقات التلفزيونية العائلية، وانطفأ الحماس للتجمع المُسبق بتحضير الشاي والقهوة، كبرنامج «سين وجيم» قديمًا، وما لحقه من برامج تعصف في أذهان المشاهدين قبل المتسابقين، وتُثير تفاعلهم بِالفأل الطيب لتُسعدهم بالجوائز.

لكن، ما لم أستوعبه للآن هو مسابقات الجمال، خاصّةً بين الأطفال، فلَمْ أجد فيها سوى استهداف الأبرياء، وزجِّهم تحت الأضواءِ بلا مبالاة بنفسيّاتهم، ليجدوا أنفسهم رهن المقارنة والتمييز على المَلأ، بالرغم من أن الجمال من إبداع الخالق سبحانه وتعالى، وليس للبشر فضل فيه ولا موهبة تُذْكَر، كلها تفاصيل لا تجلب لنا سوى الشعور بالانشغال، بينما الواقع فراغ.

ربّما كنت من أواخر الذين اقتنوا هاتفًا ذكيًّا، ولا أُنْكر جَهلي حينها بالتفاصيل التي سألني عنها البائع، من «جيجا-بايت وبيكسل وغيرهما»، ليتبيّن لي لاحقًا، أن استخدامي المحدود لتطبيقات الهاتف، لا يستحق ما أنفقت، فالتحديثات إلزامية، والعمر الافتراضي للجهاز مُقترنٌ باستمرارية التسويق، لا بحِرْص المُستخدم وقُدْرته المالية.

إن أغلب السيارات والأجهزة والإكسسوارات والشموع المُعَطّرة والأطباق باهظة الثمن، لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وما هي إلا متاع يثُقل كاهلنا في صيانته، ويزحم بيوتنا ثم يستقرّ تحت غُبار المخازن، حتى يتخلص منه وَرَثتنا بالبيع أو التوزيع.

وأتأمّل في حديث رسولنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام: «لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ».

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X