كتاب الراية

نقطة ومن أول السطر.. منتصف القرن الماضي

بالتفكير لعدة ثوانٍ كان يجيب عليهم بالقرار الهام قبل أن يتلاشى دخان غليونه

في مُنتصف القرنِ الماضي كانَ لدى الغربِ معضلةٌ حقيقيةٌ في كيفيَّةِ استمرارِ السيطرةِ على المنطقةِ بأقلِّ تكلفةٍ، سبب ذلك تعرُّضهم لصعوباتٍ كثيرةٍ، من أهمها أنَّ جيوشَهم تتعرض لقلة الإمداد من الجند. في استعمارهم استخدموا شُعوبًا أخرى للسيطرةِ على الدول، مثل الآسيويين لدى البريطانيِّين وشعوب شمال إفريقيا لدى الفرنسيِّين، تمرُّد تلك الشعوب على التجنيد خلقَ لهم مشكلات، أصبح معها من الضروري تغيير نهجهم الاستعماري.
فكانَ البحث عن بديلٍ يحققُ مصالحَهم، وكذلك يبعدهم عن أيِّ سمعةٍ سيئةٍ في ملفهم الاستعماري، تمَّ الإعلان بشكل متوازن عن منح الاستقلال للدول، وفي الخفاء قاموا بتشجيع مجموعات محليَّة للسيطرة على دولهم، لا يمتلكون أي خبرة إداريَّة أو علمية، فضلًا عن تعزيز الفرديَّة التي تجعل قرار دولة مهما بلغ من خطورة، لدى فردٍ واحدٍ.
‏وجدوا ضالتهم في (العسكر) فهم مجموعات دون خبرة سُلِّمت لهم دول محوريَّة، تصدَّر عبدالناصر هذه الخُطة وأخذ في تصدير الفكرة للدول الأخرى، كانت الأنظمة في العراق وسوريا وليبيا على سبيل المثال يوجد فيها برلمان يحاسب رأس الدولة، ويناقش الميزانيات حتى للسلطة الحاكمة، نجحت ثورتُه وطمست الدولة وقدم (الفرد) الذي كرَّس كل المقدرات والإعلام لتمجيده.
‏حدثَ صراعٌ كبيرٌ بين ملكيات وجمهوريَّات، (الفوضى) سياسة قديمة تسبَّبت في الكثير من الدمار والدماء، الدول التي نجحَ فيها عبدالناصر أصبحت اليوم أشباه دول، بعضها مُزِّق والآخر ينخره الصراع، حتى مصر الملك فاروق بمساحتها التي كانت ٣.٥ مليون كيلومتر مربع انتهت، وأصبحت مصر عبدالناصر مليون كيلومتر مربع.
‏باختصار الدولة تختزل في شخصٍ واحد، هناك حادثة يرويها سياسي أمريكي تُكرس هذا المعنى، يقول: حين نطرح نقطة على الوفدين الإسرائيلي والمصري في معاهدة السلام، نسمع في جناح الوفد الإسرائيلي ضجيجًا وتشعر أنهم سوف يتقاتلون لشدة الجدال، بينما السادات الرئيس المصري يجيب علينا بالقرار، وهو ينفخُ غليونه وقبل أن يتلاشى الدخان.
‏أمرٌ آخر يَسُرُّ الغربَ وجودُه، إنشاء بيئة من الفساد، أصبحت الدول مرتعًا كبيرًا للمصالح سواء فردية أو جماعية، دوائر القرار في الغرب تمتلكُ المعلومةَ لذلك فتخفيها وتستخدمها في الوقت المناسب لصالحها، هي تعلم أنَّ المسؤول سوف يقع في ذلك، وتغض النظر عنه بل تقدم له تسهيلات لتسهل السيطرة عليه. المجموعات الفاسدة أصبحت نوافذ تُفتح لتمرير مصالحهم، يتضح خطورة مآل ذلك الأمر بوضوح بما يحدث في سوريا، حين لم يمانع الغارق في الفساد من تسليم البلد لمحتلين من دول عظمى حتى لا يقدم أيَّ تنازل ولو كان بسيطًا لمُواطنيه الضعفاء.
‏استفادَ الغرب كثيرًا من الفرديَّة وضعف الخبرة والفساد، بالنسبة له استعمار أكثر نفعًا ودون أي تكلفة، أصبح الشرقُ الأوسط منطقةً كبيرةً للمصالح من دون الاكتراث بالشعوب ولا دمائهم، منازل رملية قابلة للتغيير في أي وقت، ما حدث في سوريا والعراق وقبلهما فلسطين دليلٌ على أنَّ الغرب ليس لديه واخز من ضمير.
حينَ عُلِّق صدامٌ على المِشنقة لم يكن العقاب له، لكنَّه تنبيه لكل شخص تُسوِّل له نفسُه فعلًا يعكر صفو أمنهم، أنا لا أقصد غزوه للكويت بل الصواريخ تجاه إسرائيل، للعلم صدام دمَّر أكثر مما بنى وحقَّق للغرب مصالحهم بفرديته، ولكنْ تجاوز خطهم الأحمر، أو ربما دوره انتهى، ولا وجود له في الخُطة الكبيرة والتي وُضعت للمنطقة.
‏هناك من يتعاطف مع صدام وغيره، إشكاليتُنا أننا نقيس الأمور بالعواطف لا بالنتائج، عبدالناصر يراه البعضُ أفضلَ بطل قاد بلده، خسر ٧٥٪ من جغرافية بلده، وخسر أربع حروب، ويفوز بالتزوير بنسبة ١٠٠٪، ودمر المنظومة الاجتماعية، والتفَّ حوله أسوأ الرجال، وخلَقَ مصطلح (أرسله إلى ما وراء الشمس) أما صدام فنحن عشنا ما حدث بعد مغامراته غير المدروسة، جميل أن نقيس الأمور بعقولنا، ونحن نقرأ الأرقام بعيدًا عن ضجيج أي تلميع إعلامي.
‏أخيرًا هناك أحداث مفصلية تغير التاريخ بعدها، فما حدث في منتصف القرن الماضي ما زلنا نعاني من تداعياته حتى يومنا هذا، البطل الأوحد في حقيقته بديل استعماري مناسب للغرب، الأمر الهام أن صراع القوى الكبرى اليوم ليس عسكريًا فقط بل الجزء الأهم هو صراع عقول ومكر، المحزن في كل القصة أن منطقتنا رقعة الشطرنج، وشعوبنا بيادق في قتالهم.

 

Twitter:khalifa624

 

العلامات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X