كتاب الراية

بيني وبينك …. القدس في الشعر العربي (2/ 3)

الأحداث التي مرت بها القدس ألهبت عواطفَ الشعراء قديمًا وحديثًا

فإذا أنتَ ذهبْتَ تبحثُ في هذه الأحداث الجِسام التي مرَّتْ بها القُدس، والتي يشيبُ لبعضها رأسُ الوليد فستجدُ تأثيرها في كلِّ ناحيةٍ، سواءٌ أكانت اجتماعيَّة أم سياسيَّة أم اقتصاديَّة أم ثقافيَّة. لقد ألهبتِ هذه الأحداث عواطفَ الشُّعراء قديمًا وحديثًا، ولعلَّ كتب التَّاريخ التي سجَّلتْ شِعرَ الفتوح في بداية الحُكم الإسلاميّ للقُدس، هي الّتي عادتْ فسجَّلتْ شِعر الاحتِلال في بداية الغزو الصَّليبيّ، ولا أشهر مِمّا قالَه الأبيوردي:

مَزَجْنا دِماءً بالدُّمُوْعِ السَّواجِمِ

فَلَمْ يَبْقَ فِيْنا عُرْضَةٌ لِلْمَرَاحِمِ

وَشَرُّ سِلاحِ المَرْءِ دَمْعًا يُفِيْضُهُ

إِذا الحَرْبُ شُبَّتْ نارُها بالصّوارِمِ

أمَّا شعراء عصرنا هذا فقد انبرَوا للأحداث الّتي وقعتْ للقُدس ابتِداء من الهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين، مرورًا بالانتِداب البريطانيّ، وانتِهاءً بهزيمة حزيران عام 1967م، فسجّلوا تلك الوقائع، ورصدوا بدرجاتٍ متفاوتةٍ ما ألمَّ بها، وعبّروا عن مرارة فقدها، وفداحة خسارتِها. فأمّا إبراهيم طوقان فصرخَ غير مرَّة صرخةً مدُويَّة وهو يرى الوطنَ يُباع ويُشتَرى:

وَطَنٌ يُبَاعُ ويُشتَرَى

وَتَصِيْحُ: «فَلْيَحْيَ الوَطَنْ»؟!

لَوْ كُنْتَ تَبْغِي خَيْرَهُ

لَبَذَلْتَ مِنْ دَمِكَ الثَّمَنْ

وَلَقُمْتَ تَضْمِدُ جُرْحَهُ

لَوْ كُنْتَ من أهْلِ الفِطَنْ

ورأى كثرةَ بائِعيه سلعةً، فكثرتْ في شِعره هذه المُفرَدات، فهو يقول:

وَطَنِي مُبتَلًى بُعصْبَةِ دَلاّ

لِيْنَ لا يَتَّقُونَ اللهَ

فِي ثِيابٍ تُرِيْكَ عِزًّا ولكنْ

حَشْوُها الذُّلُّ والرِّياءُ سُدَاها

وأمَّا عبد الرّحيم محمود فقد وقفَ عام 1935م أمام الأمير سُعُود بن عبد العزيز الذي صار مَلِكًا فيما بعدُ، وكان الشّاعر يرى أنّ حبيبتَه القُدْس ستضيع أمام عينَيه، وأنّ المسجد الأقصَى ستحطّ عليه غِربان الشّؤم، وكان يستشرف في ذلك المُستَقبَل، فلم تكن القُدسُ قَدِ احتُلّتْ بعدُ، وتحقّقتْ نبوءة الشّاعر بعدَ ذلك الموقف بثلاثة عشر عامًا، الموقف الّذي صدَح فيه قائِلًا:

يا ذا الأَمِيْرِ أَمَامَ عَيْنِكَ شاعِرٌ

ضُمّتْ على الشّكوَى المَرِيْرَةِ أَضْلُعُهْ

المَسْجِدُ الأقصَى أجِئْتَ تَزُورُه

أمْ جِئْتَ من قَبْلِ الضَّياعِ تُودِّعُهْ؟!

وليقينه بأنّ القُدسَ الحبيبة ستُذبَح، وأنّ جُدْرانَها ستُهدَّم، وأنّ مسجِدَها سيُختَطَف، لم ينتظرْ وُعودَ الأمم المُتّحدة، ولا قِيام الزّعماء العرب بحمايتها، فقد كان يرى أنّها أسرع ما تُفقَد بين أيدي هؤلاء، فرأى الطّريق إليها لا يكون إلا عبرَ الدّماء، والسّبيل إلى حمايتها لا يكونُ إلا بالموتِ فِداءً لعَينَيها وهذا ما حدث؛ فقد استُشهِدَ وهو مُقبِلٌ غيرَ مُدبِر، ضامًّا على ترابها الطّاهر أضلُعَه، وكما تنبّأ بضياع القُدسِ، تنبّأ كذلك بموته شهيدًا، فغنّى موتَه في قصيدةٍ تقطرُ شجنًا وشجاعةً:

أرى مَقْتَلِي دُوْنَ حَقِّي السَّلِيْبِ

وَدُوْنَ بِلادِي هُوَ المُبْتَغَى

يَلَذُّ لأُذنِي سَماعُ الصّليلِ

ويُبْهِجُ نَفْسِي مَسِيْلُ الدِّمَا

فإذا ذهبْتَ إلى الملاّح التّائه علي محمود طه، وكان شاعِرًا غنائيًّا، لكنّ غنائِيّته لم تحلْ بينَ فنِّه وقضيّته، فقد صوّر الضّحايا الجائِرة إلى الله وهي تُذبَح على أيدي عصابات (الهاغاناه)، فقال:

أخي إنّ في القُدْسِ أُختًا لَنَا

أَعَدّ لَها الذّابِحُونَ المُدَى

أخي قُمْ إلى قِبْلَةِ المَشْرِقَيْنِ

لِنَحْمِي الكَنِيْسَةَ والمَسْجِدَا

أمّا بدويّ الجبل، فقد كانتِ العروبة تسيل في شرايينه دمًا حارًّا، وكان شِعرُه يفيضُ بالتّمجيد للشّهداء وللأبطال، وكان نَسِيْجُ قصيده زَردَ الحديد، القائل:

يا سَامِرَ الحَيِّ هَلْ تَعْنِيْكَ شَكْوَانا

رَقَّ الحَدِيْدُ وما رَقُّوا لِبَلْوَانا

هَلْ فِي الشّآمِ وهل فِي القُدْسِ وَالِهَةً

لا تَشْتَكِي الثُّكْلَ إعْوَالاً وإرْنَانَا

فقد رأى أنّ العِتاب لا يكون بالكلمات ولا بالدّموع، إنّما يكون بالأشلاء والنّيران، فإنّه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، ولا يحفظُ الحقّ إلا السّيف، ولا يستوجبُ السَّيْفَ أمرٌ أكثر من هؤلاء الثّاكِلات المُعوِلات في هذه المدينة المنكوبة؛ القُدْس. ولقد أنشدَ عبد الكريم الكرميّ للأطفال الّذين يُولَدون أبطالاً، فيقتحمون الهَول، ويهبّون للدّفاع عن حبيبتهم القُدس ثائِرين، يمشون على لهبِ الموتِ، ولا يخضعون لأحدٍ، حتّى يتحقّق لهم الوَعدُ بالنّصر، وإذ ذاك تشرُفُ بهم فلسطين وبأمثالِهم:

مَنْ رأى الفِتْيانَ يَمْشُوْنَ عَلَى

لَهَبِ المَوْتِ رَأَى المَوْتَ العُجَابَا

وُلِدَ الأطِفَالُ أبطَالاً عَلَى

وَهَجِ الثَّوْرَةِ لَمْ يَحْنُوا الرِّقَابَا

شَرُفَتْ دُنْيَا فِلَسْطِيْنُ بِهِمْ

وَبِهَا قَدْ شَرَّفُوا الدُّنْيا انْتِسابَا

يُتبَع….

الأردنّ

AymanOtoom@

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X