كتاب الراية

ما بين السطور.. البحث في زوايا الذاكرة

معظم من أعرفهم وأقابلهم أصبحوا كالأغراب عن الكثير من ذكرياتهم

العثورُ على الأشياءِ القديمةِ، كالعثور على إبرة في كومة قشّ، سواء كانت تلك الأشياء أوراقًا أو شهادات، أو صورًا فوتوغرافيَّة، وأحيانًا ربما تكون ذكريات..

أجلّ الذكريات التي نحفظُها منذ أمد طويل، ولا نعود إليها لاستخدامِها، تبدأُ في الاضمحلال رويدًا رويدًا، ثم حين يطرأ شيء منا يطالبنا بتلك الذكرى وذلك الحدث، وتلك الوجوه، نجدها خلف غلالة شفافة من الضباب الزمني، الذي لا يزول إلا بمحاولة تنظيفه وإزالته من على سطح تلك الذكرى..

تردني تلك الفكرة كلما طالبني شخص ما، بصورة أو قصة أو قصيدة قديمة، عندها اكتشفت أن ذاكرتي قد حجبت كل تلك الأشياء الجميلة التي حفظتها عن غيب في الحصص المدرسية، ولم يعد الوصول إليها ممكنًا، ولذلك ربما أصبحت عاجزة عن حفظ أي من أفكاري الحديثة، وقصائدي، وحتى عناوين تلك المؤلفات..

أشاهد ليلًا فيلمًا من الأنواعِ التي تشدني إليها، ولكن في الصباح تكون كل الذكريات عن ذلك الفيلم قد انقضت مع رياح النسيان الشديدة، والتي تهلُّ علينا بكل سخطها وغضبها..

تمسح بممحاتها الشريرة كل الرسوم والحروف والشخبطات التي سبق لنا أن اختزناها منذُ سنوات الطفولة في أرشيف الذكريات..

وتطارد كل اللمحات الحديثة التي نحاول تثبيتها بال (سوبر جلو) لكن مخالبها أقوى من كل أنواع الغراء في عالمنا البشري.. حتى يغدو ذلك الذهن مجرد صفحة باهتة بكل الألوان والحروف والمناسبات السعيدة، والأسماء التي عرفناها، والوجوه السمحة، والأدهى من ذلك زوال كل تلك الملفات والذكريات إلى خلايا العدم، التي تمحو كل ما تصادفه أمامها..

إنَّها رياح الزهايمر التي تهبُّ على البشر في أضعف حالاتهم الجسدية والنفسية، فرصة جيدة لاقتناص كل الكنوز والثروات المخبأة على مدى عقود من الزمان لدينا، والقضاء عليها رويدًا رويدًا..

وحين تدور عقاربُ الزمن، فإنها لا تلبث أن تقيم في أذهاننا، وتبدأ بتسميم كل معلوماتنا السابقة، ولا مجال للتخلص من تلك العقارب السامة، فما فات فات، وما ضاع من الزمن لن يعود، مهما قابلنا من الأطباء، ومهما جرينا للبحث عن الدواء الشافي..

لست وحدي من يشكو من تلك المشكلة، معظم من أعرفهم وأقابلهم، أصبحوا كالأغراب عن الكثير من ذكرياتهم، وما حاولوا حفظه بعيدًا عن تقلبات الزمن. وحينما يحاولون الولوج إلى ملف الذكريات، فإنهم يصادفون عراقيل ومطبات كثيرة، قبل أن يحظوا بالمساعدة من أحد ما، ليساعدهم على فتح مغاليق الأبواب، وليجعلوا الذكريات تطفو على أمواج الحاضر، ليتمكنوا من رؤية ما خفي لهم منها، ربما بضع لقطات ومفردات، ربما صور مشوشة لا تكاد تعني شيئًا، ربما أحداث متقطعة، وكأنها قد أنهكت في آلة المونتاج السينمائي، التي ترتب المقاطع والصور والأحداث المصورة، كما يريده المخرج، وكما يمكنه أن يسير وَفق مخططه الخاص.. إنَّها الذاكرة، والتي تختزن بداخلها كل لحظة وثانية من الزمن، منذ بداية الوعي ومراقبة الأحداث، وحتى اللحظة السابقة من الآن، والتي نحاول بعدها الغوص في غياهب تلك الذاكرة، التي لا ترحم صغيرًا ولا كبيرًا، وهي تحاول طمس الكثير من المشاهد والأصوات والأحداث، والوجوه عنا، حتى تصبح مجرد خطوط مشوشة خلف أسوار من الضباب الكثيف، والذي لا يمكنه مساعدتنا على الرؤية، وترتيب الوقائع والذكريات كما وضعناها هناك منذ زمن ليس بالقصير، ربما يكون بضع سنوات، وربما لعقود من الزمن، وربما لا يكون سوى بضعة أيام ماضية.. سبحان الله، فالكثير مما يدخل في دائرة النسيان، يكون من الأحداث المؤلمة، والتي يحتاج المرء إلى نسيانها حقيقة، حتى لا يعيش يتلظى في نيران الذكرى..

إنها أحيانًا كثيرة نعمة كبرى من الله، أن نعيش يومنا، دون الإحساس بالإعياء والحزن والمزيد من الذكريات المؤلمة..

لكننا البشر لا يمكننا الاقتناع بما لدينا، فهل نحتاج لكل تلك الملفات من الذاكرة المضنية، لنعيد سردها وعرضها في اللحظات الحالية والآتية، أم أن وجودها خلف ستائر النسيان والبعد هو أفضل حالًا لنا..؟؟؟

لسنا نعرف الإجابة حتى الآن.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X