
في نصِّ «رحل النهار» لإسماعيل عبدالله نجدُ الصرخةَ، فالكاتب يغلفُ المضمونَ في البداية بحكاية.. ومن ثَمَّ يطرح عبر رؤيته الإخراجية ما يشغل ذاكرتَه، ويتواءم هذا الأمر مع فكر المخرج محمد العامري، فكلاهما يعرفان ويقرآن أفكارَ الآخر، من هنا المواءمة بين لغة شاعرية يصبغ بها الكاتب حوار شخوصه، وبين مخرج يمنح الحياة لهذه الشخوص عبر اختيار من يملك القدرة على إيصال الفكرة للمتلقي بالقدرة على التجسيد.
وإذا كانَ الكاتبُ يستعرضُ في أيِّ نصٍ قدَّمه عبر تاريخه الطويل مقدرتَه على استحضار اللغة السامقة حتى قيل إنَّ المسرح قد سرقَه من الشعر، إلا أنَّ الحنين دائمًا يجرفُه إلى الشعر، فهو غوَّاص ماهرٌ في اختيار الكلمة المتفردة في أي فكرة مسرحية ارتبطت بقضايا المجتمع أو جاءت في إطار الشعبي أو إطار من الخرافات.. وتتعدد مصادره ولكن في «رحل النهار»، تتجلى صرخة أخرى.. فبرحيل النهار يغلف الكون الظلام، وهنا يكون «للخفافيش» دورٌ آخر، وهذا ما عرّاه عبر النماذج. في هذا النص يعيش الكاتب هاجس الواقع المغلف بالقهر والظلم والطغيان، نماذج عدة نعم.. ولكن لا يختلف أحدها عن الآخر.
هنا لا يتحمل الكاتب متفردًا صرخات الإنسان، نعم الأحداث تأخذنا إلى عدة أقطار، ولكن في براءة يقول صاحب النص: هذا امتزاج بين أكثر من فكرة، هنا «كولاج» بين صرخته وصرخة جل الشعراء العرب.. نعم البناء المعماري للنص من ابتكاره، والعمل ينسب له، حتى وإن استعان بما جادت به قريحة الشعراء.. حركة ذكية إذا حوصر فسوف يبرر.. كل هذه الصرخات ترنم بها كثيرون قبلي.
وعبر التشكيل في الفراغ المسرحي.. وعبر الحلم بالغد الآتي.. تتعدد المآسي.. هروب العاشق خوفًا من الاعتقال، ومن أجمل المشاهد مشهد العقاب على مستويين والتشكيل في الفراغ المسرحي عبر الحبال. كل هذا لأن النص يحمل فكرًا، ولأن المخرج يملك أدواته في تحريك كافة عناصر العرض المسرحي.. وكان استحضار (المالد) ذلك الطقس الديني احتفالًا بمولد سيد الأنام وترديد مفردة «مدد.. مدد» ليس تأكيدًا على الهزيمة ولكنْ ارتباطًا بقوى أخرى ستكون للإنسان الباحث عن النجاة.
ولذا، فلم يستفد الكاتب فقط بما قدمه الشعراء.. وهناك اعتماد آخر لا يقل مؤازرة للنص عبر استحضار آيات قرآنية وأحاديث. سؤال برسم الإجابة: هذه الصرخة التي أطلقها الكاتب الكبير إسماعيل عبد الله هل تحمل التحذير مما هو آتٍ أم صرخة أخرى؟! إن هذا الواقع لن يتغير! أعتقد جازمًا.. لا هذا ولا ذاك، ذلك أن الإرادة بلا شك هي أبرز الأمور ومعها تتحقق الأماني والأحلام.. وتتجسد في: «سنصنع السفينة من ضلوعنا»، وتلك الصرخات «حي على البناء»، «ليس بالسيف يوقد النور»، وإذا كان المشهد الافتتاحي عبر الرؤوس، وكذلك المشهد الختامي، فالمؤلف والمخرج لا يقدمان ما يجسد روح اليأس، وأن المقاومة أعجز من تحقيق أماني الشعب.
«رحل النهار» عرض مسرحي، قال كل شيء.. وعرَّى واقعنا، قدم نماذج نعرفها وبلادًا دفعت الثمن عبر أناس ترنموا بحب الوطن، ولكن عبر شعارات جوفاء، واستلهم الكاتب الفكرة وتبرأ من كل هذا وقال: أنا سجلت ما قاله الشعراء، فإذا كان هناك احتجاج من قبلكم فإن الذنب ذنب جل أصحاب الصرخات، وإذا كان هناك محاكمة للبعض، فليكن محاكمة الشعراء الذين طرحوا قصائدهم وترنموا بها…!
نعم هذا العرض المسرحي، وإن استحضر واقع الأمة والإنسان.. فإنه قد أطلق صرخة الاحتجاج.. متى تصحون من غفلتكم؟ انتبهوا.. فكان الرد.. ما زال الوقت باكرًا.. وصرخ آخر.. نحن مقيدون باليأس.. وعبر الشعب: إذا الشعب يومًا أراد الحياة.. وأمسك الكهل بعصاه وهو يردد… ما معنى الحياة…؟!.