وداعًا 107.40
الكثير من أبناء ذاك الزمن ارتبطوا بإذاعة الـ BBC
الـ BBC حاضنة الأخبار الدقيقة التي تابعها ملايين المستمعين
مع إعادة بثها عبر محطات الـ FM أصبح ذلك متيسرًا وسهلًا
أصبح من السهل التعرف على أسماء أصوات مذيعيها ومراسليها
مدرسة في التدريب على فنّ صياغة الأخبار وإعداد البرامج وإجراء الحوارات

قبلَ فترةٍ من الزمنِ زارني في مجلسي زميلي العزيز الأستاذ أيوب صديق، وهو صديقٌ تأنس للحديث معه والغوص في مُحيطِ ذكرياتِه الإعلاميَّة والدروب الطَّويلة التي سارَ عليها ومشواره المهني الغزير،، ولكن أهمها على الإطلاق عمله في محطة ال BBC الإذاعيَّة العريقة.
وبعد السلام والحديث في العديد من القضايا، استأذنني في إجراء اتصال هاتفي مع شركة «كروه» للسيارات، فقد قال لي: إنه فقد محفظته يوم أمس في إحدى سياراتها، ويريد الاستفسار إن كانت هذه المحفظة قد تم الحصول عليها.
دار الحوار أمامي على هذا الشكل:
ألو: شركة «كروه»؟
الموظف: نعم معك شركة «كروه».. هل من مساعدة أقدمها لك؟
أيوب: أخي الكريم أمس كنت أستخدم سيارة «كروه»، وأعتقد أني فقدت محفظتي في إحدى سياراتها، وأنا أستفسر إن كان نما لعلمكم شيء أو وصلتكم مثل هذه المفقودات؟
الموظف: راح أستفسر لك عن هذا الأمر وأبلغك على نفس الرقم الذي تتصل منه حال ما أحصل على أي معلومة.
أيوب: شكرًا أخي على تجاوبك.
الوظف: لا شكر.. هذا واجبنا.
ثم قال: أخي الكريم عندي استفسار،، صوتك ليس بغريب عليَّ هو شبيه بصوت الأستاذ أيوب صديق مذيع ال BBC اللندنية،، هل أنت أيوب صديق؟ أم شخص تشبه صوته.
ضحك أيوب صديق، وقال نعم أنا أيوب صديق نفسه.
ما شاءَ الله، تعرف أنا كنت أتابعك من زمان وأسمع تعليقاتك الإذاعية في محطة ال BBC اللندنية، وصوتك مميز،، ولكنك اختفيت عنا وعن المستمعين.
حدث هذا الشيء أمامي وفي مكاني،،
كان الأستاذُ أيوب قد ترك ال BBC منذ التسعينيات، وانتقل للعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة لفترة من الزمن، ثم وصل إلى قطر وعمل في قناة الجزيرة، كنت أتمنَّى ومن زمن طويل، لو قُدر لي أن أستقطبه للعمل في قطر، كان للرجل صوت جميل.
كان والدي «رحمه الله» متعلقًا بالأخبار ومستمعًا جيدًا للإذاعات العربية، ويعرف مذيعي هذه المحطة واحدًا واحدًا، رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب، ولم يلتقِّ بأي منهم قطّ، ولكن نبرات صوتهم كانت تدل على أسمائهم.
- أرشيف الـ BBC غني بالمادة الزاخرة بالتاريخ والتراث العربي
- حفظت ترددها وكنت أدير جهاز الراديو في سيارتي على موجاتها
أذكر في إحدى المرات التقى مع الأستاذ «صلاح خليفة» المذيع بإذاعة قطر رحمه الله، وعندما عرفه من صوته انحنى به جانبًا وراح يتحدث معه وكأنه يتحدث مع أحد الساسة العرب ليتعرف منه على بعض القضايا العربية،، كنت أقول له: يا يَبه هذا مجرد مذيع يقرأ الأخبار، وكان يرد «أنت ما تعرف شيء هو يعرف أحسن منك»، كان رحمه الله مقتنعًا، كما غيره من جيله، بأن هؤلاء المذيعين يعرفون ما يدور في العالم من أحداث وقضايا.
كان «أيوب صديق» يمثل له نفس الظاهرة، فالكثير من أبناء ذاك الزمن ارتبطوا بإذاعة ال BBC، والتي مثلت لهم حاضنة الأخبار الدقيقة، تابعها الملايين من المستمعين، كان التقاط بثها في بعض الأحيان يشوبه التردد، ولكن مع إعادة بثها عبر محطات ال FM، أصبح ذلك متيسرًا وسهلًا، وأصبح مذيعوها ومراسلوها أسماء من السهل التعرف عليهم، ونالت العديد من برامجهم استحسان المستمعين، بل تحولت هذه المحطة لمدرسة في التدريب على فن صياغة الأخبار وإعداد البرامج وإجراء الحوارات الإعلامية، ناهيك عن أرشيفها الغني بالمادة الزاخرة بالتاريخ والتراث العربي.
- ودَّعت هذه المحطة العريقة أمس الأول مستمعيها للمرة الأخيرة
- عاصرتُ موت صحيفة ومجلة .. لكن لم يخطر ببالي موت إذاعة
شخصيًا كنت أدير جهاز الراديو في سيارتي على موجاتها، فقد حفظت ترددها، وأستمع لصوت إحدى الفتيات وهي تقول: أنا من قطر استمع لل BBC على موجة 107.40 FM الدوحة.
يوم الجمعة الماضي ٢٦ يناير ٢٠٢٣م ودَّعت هذه المحطّة العريقة، مُستمعيها للمرَّة الأخيرة، ففي الرابعة مساءً أدرت محرك الراديو على تلك الموجة لعلني أستمعُ لدقَّات «البج بن»، تعلن الواحدة ظهرًا حسب توقيت جرينتش، ولكنني لم أستمع لشيء من ذلك، بل أصبحت هذه المحطة، من لحظتها، ذكريات مرت ورحلت.
كنت أتوقع وأعرف وأسمع عن موت صحيفة ومجلة ونشرة ودورية،، ولكن لم يخطر على بالي أنني سوف أعيش لحظة لسماع موت إذاعة، ولكنه حدث ومع مَن ؟ مع واحدة من أشهر وأعرق المحطات الإذاعية الناطقة باللغة العربية.
وداعًا لإذاعة الـ BBC العربية،، وداعًا لـ 107.40.