كتاب الراية

فيض الخاطر.. الرواية.. وآفة حب الانتشار

معظم دور النشر في عالمنا العربي لا تهتم بالجودة قدر اهتمامها بالعائد المادي

المعروف أن الرواية أصبحت في الواجهة بين فنون الإبداع الأدبي، وتصدرت قوائم المبيعات في معارض الكتب، بسبب الإقبال الكبير الذي تحظى به بين جمهرة القراء، ما أفرز ظواهر عديدة في عالم الرواية، أبرزها كثافة الإنتاج الروائي الذي أفرز بدوره كمًا لا يُستهان به من الروايات الأقل جودة، لا من حيث ضعف اللغة فقط، ولا من حيث تدني الحبكة الروائية فقط، ولا من حيث تجاهل الحد الأدنى من الشروط الأساسية للكتابة الروائية فقط، لكن فوق ذلك كله هناك ما يمكن تسميته بتجاهل وعي المُتلقي والإسهام في تجهيل القراء، وتدمير الذائقة الفنية لديهم، وكل ذلك يتم بسبب ما يمكن أن تجلبه الرواية من شهرة وهمية لكتّاب الرواية المُبتدئين والمُتهافتين على حب الانتشار، وأقول شهرة وهمية لأن ما يبدو على السطح يختلف في حقيقته عن واقع معظم ما تتضمنه رواياتهم من هَنَات وأخطاء فنية واضحة، لا يُدركون مدى خطورتها على الكاتب نفسه قبل القارئ، لأنه يدفع هذا الكاتب المُبتدئ إلى الاعتقاد بأنه قد بلغ ذروة الجودة وهو لا يزال يحبو في عالم الكتابة، وكأنه في سباق لتحقيق وفرة الإنتاج، وهو سباق غالبًا ما يؤدي إلى عثرات لا تُحمد عقباها، والعبرة ليست في وفرة الإنتاج، لكن في جودته، والروايات الخالدة في العالم لم يقدر لها البقاء إلا لأنها تملك مُقومات هذا البقاء، ولم يكتب لها الانتشار إلا لأنها تملك أسباب هذا الانتشار.

ويكفي أن يبني الكاتب شهرته على رواية واحدة قوية، تملك كل شروط النجاح كما فعلت الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل في روايتها الوحيدة «ذهب مع الريح» التي جلبت لها شهرة واسعة وثراءً ماليًا كبيرًا، خاصة بعد تحويلها إلى فيلم طبقت شهرته الآفاق، وكذلك الكاتب الروسي بوريس باسترناك في روايته «دكتور زيفاكو» وهو الذي ترجم للروسية أعمال شكسبير، لكن شهرته ارتبطت بروايته الوحيدة هذه، وللأمريكية هاربر لي رواية وحيدة هي «لا تقتل طائرًا بريئًا»، التي استوحتها من قصة حياتها، وحققت نجاحًا سريعًا، حتى أصبحت علامة في تاريخ الأدب الأمريكي الحديث، وهناك أيضًا «مُرتفعات وذرنج» لإيميلي برونتي، وهي من الروايات الأبرز في الأدب الإنجليزي، وإيميلي هي الوسطى بين الأخوات برونتي الشقيقات الثلاث، وهن شارلوت وكتبت العديد من الروايات، وآن وكتبت روايتين، أما إيميلي فكتبت روايتها الوحيدة هذه. وكذلك الكاتبة الإنجليزية آنا سويل التي لم تمنعها إعاقتها من كتابة روايتها «الحصان الأسود» التي حُوّلت إلى فيلم أكثر من مرة وكذلك تم تحويلها إلى مسلسل مرتين، أما الأمريكي آرثر جولدن فقد درس الأدب الياباني وأكمل دراساته العُليا في تاريخ اليابان، ثم عمل في طوكيو، وكتب روايته الوحيدة «جيشا» المُستوحاة من حياة فتيات الجيشا في اليابان، وتم تحويلها إلى فيلم فاز بالأوسكار وجولدن جلوب، وكذلك الأمريكي جيروم ديفيد سالينغر الذي كتب روايته الوحيدة «الحارس في حقل الشوفان» والتي بيع منها 65 مليون نسخة، وتبلغ مبيعاتها السنوية 250 ألف نسخة، بعد أن تمت ترجمتها إلى مُعظم لغات العالم، واختارتها مجلة تايم كواحدة من أفضل 100 رواية كتبت باللغة الإنجليزية، أما الأمريكية كاترين ستوكيت، فقد كتبت روايتها الوحيدة «عاملة المنزل» التي رفضت عدة مرات من الناشرين، ولما تم تحويلها إلى فيلم تمت طباعتها لتتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعًا على لائحة النيوزويك ولأكثر من مئة أسبوع.

هناك روايات كثيرة يتيمة بالنسبة لكتّابها، ومع ذلك حققت الانتشار والمجد لأصحابها، لأنها تكتنز كل مُقومات النجاح، لغةً وأسلوبًا وتقنيةً، والتصاقًا بكل ما هو إنساني وجميل ورائع.

أن يكتب الكاتب رواية واحدة تستوفي شروط الإبداع الروائي أجدى له وللأدب من كتابة عشرات الروايات التي لا تحدث أثرًا في نفوس قرائها، وواقع مُجتمعها، ولا تُعنى بأي شأن إنساني هام. خاصة أن معظم دور النشر وتحديدًا في عالمنا العربي، لا تهتم بالجودة قدر اهتمامها بالعائد المادي الذي قد يدفعه المؤلف، أو تُحققه المبيعات لقراء لا يسعون للمتعة الذهنية بقدر سعيهم للمتعة المُرتبطة بما هو دون ذلك، بطابعها التجاري الخارج على كل ما يجب أن يكونَ عليه العمل الروائي من قيم أدبية وفنية وإنسانية خالدة.

 

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X