كتاب الراية

بيني وبينك.. آبائي في الرّواية (1-3)

بدأت بقراءة الرّوايات بعد دخولي كلّيّة الهندسة في المرحلة الجامعيّة الأولى

آبائي في الرّواية طائفةٌ مُمتدّة، بدايتي قراءةً وحفظًا وكتابةً كانتْ مع الشّعر باستثناء بعض المحاولات الأولى الخَجولة في القصّة القصيرة، ثُمّ لَمّا بدأتُ أَلِجُ عالَم الرّواية، كان ذلك في وقتٍ مُتأخّر تقريبًا، وباستِثناء بعض الرّوايات، خاصّة المُترجَمة منها الّتي أخذناها في المرحلة الثّانويّة كمنهاجٍ مُسانِد، فإنّني لم أبدأ بقراءة الرّوايات إلاّ بعدَ أنْ دخلتُ كلّيّة الهندسة في المرحلة الجامعيّة الأولى… بدأتُ بنجيب محفوظ فقرأتُ أغلبَه. ثُمّ لمّا عرّجتُ على الرّوائيّين الآخرين ظلّ نجيب يُطلّ برأسه من فترةٍ لأخرى بينهم، مادًّا إليّ روايةً أخرى من رواياته لأقرأها فيما أنا أقرأ سِواه. لقد كانت السّلاسة والبساطة والتدرّج هما سِمات ما يكتب وذلك ما أخذتُه عنه.

ثُمّ كان لي وَقَفاتٌ طِوالٌ مع الرّوائيّ (عبد الرّحمن منيف)، فقرأتُ تقريبًا كلّ ما كتب، بعضُ ما كتبَ يُشعرك بالصّدمة، بعضُه بالتّقزّز، وبعضُه يُبكيك حتّى تسيل القَطَرات من تحتِ قاع ذقنِك، هذا التّلاعب بالمشاعر هو ما استفدتُه منه، على صعيدٍ آخَر كان في (شرق المتوسّط) على سبيل المثال عبقريًا في القطع والاستِرجاع، نقطة الوقوف والتّقدم أمامها، أو التّراجع خلفها، وفي نقطة التّقدّم أنتَ تتراجع من جديدٍ؛ فلقد أفدتُ من هذه التّقنيات البسيطة المُدهشة في الآن نفسه.

ثُمّ لمّا خرجَ لي الرّوائيّ اللّيبيّ (إبراهيم الكُوني) من رِمال الصّحراء عرفتُ كيفَ يكون لهذه الصّحراء ذاكرة، ورائحة، وعَبَق، وسِرّ، وسِحر، وغموض، وطقوس، ومُقدّسات، ومُدنّسات، وغرق، ونجاة، وموتٌ، وهلاك، وعَطَشٌ، وَرِيّ… كلّ ذلك صنعتْه حروفُه السّاحرة، ذلك الغموض اللّذيذ باستِخدام تلك اللّغة الشّفيفة الّتي هي كالبلّور صَلدةٌ لكنّها تبين عمّا تحتَها.

ثُمّ تقدّمتْ إليّ (رضوى عاشور)، فضربتْني بمطرقةٍ على رأسي في ثلاثيّة غرناطة، ولَمّا صحوتُ منها، من التّاريخ المُكتنِز فيها، وتلك الواقعيّة الخياليّة فيها، رحتُ ألتهم ما تبقّى من رواياتها: فَرَج، وسِراج، وخديجة وسوسن، وتقارير السّيّدة راء، وأطياف، وقِطعة من أوروبا، وجميع روايات رضوى تشترك بذلك القدر من الأمومة، الأمومة الّتي تطغى في النّظر إلى الأشياء والحُكم عليها، وهذا جانبٌ مهمّ في نظرتي إلى الأشياء أفادني -بالطّبع- حينَ كنتُ أُبدّل بين شخصيّاتي في رواياتي، فكان تقمّص دور الأمّ أو المرأة يحتاجُ إلى شيءٍ من هذا. غير أنّ أهمّ ما يُمكن أن أقول إنّني أفدتُ به من روايات رضوى عاشور هو تمتيع التّفصيل إذا جاز التّعبير، أي الحديث عن الأمور العاديّة كطَرْق بابٍ مثلًا أو دُخولِ حَمّامٍ بتفصيلٍ مُمتع، وهذا كان جليًّا في كتاباتها.

فإذا ذهبتُ إلى (صُنع الله إبراهيم)، فذلك العذاب الخفيّ، روحُه تتعذّب في كتاباته، لم يقلْ ذلك بالطّبع، أنا شعرتُ به يتحرّك تحتَ حرفه، ذلك ما أفدْتُه منه بالضّبط، أنْ يشعر القارئ بألم شخصيّاتي تحت حروفي دون أنْ تجهر الشّخصيّة بالقول بذلك. ثُمّ ذلك الغياب، الغياب الطّويل غير المُسوّغ للشّخصيّة في أنفاق العبارة، إنّه يُتقن ذلك، وأنا أعرفُ كيفَ آخذُ من هؤلاء الرّوائيّين أفضل ما عندهم.

أمّا (الطّاهر وَطّار)، فقِصصه القصيرة، أضربُ مثلًا: «من ياسمينة إلى…» هي بالضّبط حَدّ سِكّين ذابح، يَحُزُّكَ من الوريد إلى الوريد، إنّه يُتقنِ الإضاءات السّريعة على المشهد، الانتقالات الخاطفة بين الأماكن، وتعتيم النّوافذ الّتي تُطلّ على الفكرة، ليسَ تعتيمها تمامًا، إنّه يترك خيطًا رفيعًا يتسلّل إليها لكي تكتشف أين يقودكَ ذلك الخيط؛ ذلك تمامًا ما أفدتُه منه. مثلُ ذلك يُقال (للطّاهر بنجلّون) مع اختِلافٍ بسيط، بنجَلّون يُعدّد المكان، ستجدُ أنّكَ في مكانٍ واحدٍ، كأنْ يكون زنزانةً مثلًا كما في (تلك العتمة الباهرة) ولكنّ المكان في هذه الزّنزانة ليس مكانًا واحِدًا، وإلاّ فإنّك ستُحبَس مع السّجين نفسه إنْ لم تكنْ قادرًا في كلّ مرّة على الدّخول على هذه الأمتار المربّعة القليلة من بابٍ مُختلف؛ ذلك ما تعلّمْتُه منه.

في مرحلة لاحقة، رُبّما بعد أنْ بدأتُ بكتابة الرّواية، ظهر في المدى الجزائريّ (واسيني الأعرج)، كان ذا لغةٍ عذبة، يقطر منها الشّهد، قادرًا على أنْ يتحدّث عن الشّعور الواحد بألفِ طريقةٍ وطريقةٍ، ومع تعدّد الطّرق في التّعبير لا تفقد اللّغة عذوبتها، ولا عُذريّتها، كأنّما جيءَ بها للّتوّ، وكأنّها خرجتْ من قاموس الشّعور لحينه.

يُتبَع….

[email protected]

[email protected]

الأردنّ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X