كتاب الراية

كلمات.. هل سألتِ عني؟!

عليك أن تتمكن من فهم قواعد اللعبة وتركب الموجة التي تلائمك

حضر إليَّ في مقابلة شخصية للتوظيف، وفي اللقاء رحبتُ به، وبدأنا نتحدث، تكلم عن نفسه ثم -وفي منتصف حوارنا- سألني: هل سألتِ عني؟!
استغربتُ سؤاله، فليس من إتيكيت المقابلات أن يسأل المتقدم للوظيفة هذا السؤال ! صمَتُّ لبرهة لأجاري تدفق أفكاري التي بدأت تطنُّ في رأسي، وأسئلتي واستنكاري الذي يقعقع في جمجمتي، يا تُرى لماذا اُضطر أن يطرح مثل هذا السؤال؟! وهو استفهام قد يضعف موقفه سواء كانت إجابته تدعمه أم تضعف موقفه !
ولكن مِلت للتفكير الذي قد يفسر موقفه، بأنه كان يواجه مشكلة ما في عمله السابق، أو لم يكن يشعر بالرضا في بيئة العمل السابقة، وهذا ما قد دعاه للسؤال، وهنا تفهمتُ قلقه، وبدأ تفكيري يضغط عليّ بالأسئلة أكثر فأكثر: هل يُمكن أن يتأثر مستقبل أحدهم بسمعته في عمله السابق؟ وما أهمية رسائل التزكية التي ترفق بالسيرة الذاتية للموظف؟ وهل يؤثر رأي مديره السابق على قرار توظيفه؟. وشرعت اتجاهات ونواحٍ أخرى تعصف بي، وتلج في آفاق خواطري، وبدأت أتساءل: وماذا إذا كانت تلك الرسائل مجرد أنموذج مكرر يستعمل مع الجميع؟ وهل صدق مديره في تزكيته ؟ أم تراه يزكيه حتى يتخلص منه ؟ أو ربما قام بتزكيته بناء على قرابة أو مصلحة؟!
انسجال من الأسئلة تبحث عن إجابات، وهو لا يزال يحدق بي، ولسان تفكيري يقول: لو لم يكن يعاني في عمله السابق من أي مشكلة فهل سيسأل هذا السؤال ؟ فلو كان ذا طبع متغطرس أو كان مستهترًا أو متمردًا فلن يفضح نفسه بذلك السؤال! أم تراه قد أصيب بلوثة حمق أفقدته اتزانه!!
لستُ أدري، ولكن لا أعتقد بتاتًا أنه من الإنصاف أن ينظر إلى الموظف من خلال منظور مُجحف ومجرد من الإنسانية، التي تملي علينا منح الفرص للآخرين، فما كان هناك ليس بالضرورة أن يتكرر هنا فلا المكان ولا الزمان ولا البيئة ولا الأشخاص ولا حتى الظروف يمكن أن تتشابه، يقول هيراقليطِس الفيلسوف اليوناني في عبارته الشهيرة «إنك لا تنزل النهر مرتين» وهي عبارة استوقفتني كثيرًا مذ كنتُ طالبة في مرحلة الثانوية في دراستنا للفلسفة، فهو يشبه الحياة بمعطياتها وتجاربها بالنهر الجاري الذي يتجدد باستمرار في كل جزءٍ من الثانية، ونحن في هذه الحياة متجددون بتجاربنا، ومواقفنا التي تحدد قناعاتنا، فالحياة بظروفها لا تسير بنفس الثبات، كالنهر تمامًا، فحالة التجدد والتغيير والتحوّل، هي ديدن الحياة، بينما حالة الثبات هي نقيض كل صور التطور والنمو، اللذين يعتبران خصالًا أساسية في الكائنات البشرية، وأتمنى أن تدرك ما أرمي إليه، إذا ما استثنينا ثوابتنا وقيمنا وأخلاقنا، التي لا تخضع للمساومة والجدال، والتي تلقي بظلالها بشكل أو بآخر في تعاطينا مع أحداث الحياة المُختلفة، فنحن قد نمر بنفس الموقف ذاته في فترة زمنية قصيرة، ولكن طريقة استجابتنا له في كل مرة قد تختلف، نظرًا لاعتبارات مُتعددة، أهمها تغيّر وعيك ونظرتك، وطريقة معالجتك وتعاطيك مع الحدث، التي تتأثر بوقت هذا الحدث ومكانه وأبعاده، وكذلك حالة مزاجك النفسي، وارتباط ذلك الموقف سواء بأشخاص أو وضع له مكانته الخاصة لديك، وعلى الجانب الآخر يوجد الآخرون، وقد تستغرب من ديناميكية استجاباتك على اختلاف درجاتها مع مختلف الأفراد، بشخصياتهم المتنوعة، وردود أفعالهم وآرائهم حول شخصيتك، حيث يوجد لدى كل فرد منهم مشاعر مُختلفة تجاهك، يقيّم بها شخصيتك، جراء اختلاف الأدوار والأحداث والخبرة السابقة، أو ربما كنتيجة لمُعتقد قد سمعه عنك وصدّقه، فأنت تعرف نفسك، بينما يعرفك الآخرون كل بحسب تجربته معك، ولذا تجد هذا يمدحك وذاك يذمُّك! بينما أنت هو الشخص ذاته! ولكنك المتغير المشترك بينهم!
انتبهت لنفسي وعدت من غيبوبتي التي لم تتجاوز دقائق معدودة، ثم سألته: ما رأيك في السياسة؟ ضحك في عجب، لأنه لم يترجم ما أرمي إليه إلى الآن، فأجاب: وما شأن السياسة ؟! عمومًا ليس لي أي شأن فيها. فقلت: الحياة سياسة، ولا يوجد ثبات في السياسة ولكن هناك مصالح متغيرة، الواقع عادة ما يكون شائكًا، ولو كان الواقع مثاليًا لما احتاج إلى عقول واعية وحكيمة ومتمرسة، تمتلك المرونة وتحسن التحرك خلال الأشواك والحسائك، وتدرك أن إشكالات الواقع ليست مفاجأة بالنسبة لها، بل إن الأمر الذي يكاد أن يكون معجزة أن تجري الأمور بسلاسة، وبدون أي صعوبات، لذلك قد لا تعمل على تغيير الواقع بقدر ما تعمل على إعادة قراءته وتنظيم أوراقه وتطويرها، حتى تعزز فرص النجاح فيه، فعليك أن تتمكن من فهم قواعد اللعبة، وتركب الموجة التي تلائمك، واثقًا من نفسك وقدراتك، فلست محتاجة أن أسأل عنك!
دمتم بود.

[email protected]

 

@shaika_2020

العلامات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X