قطر لم تتخل عن ثقافتها خلال المونديال
المونديال اختبار حقيقيّ لجدوى الدبلوماسية الثقافية كقوة ناعمة
مونديال قطر أعاد الثقافة إلى قلب الاهتمامات الدّوليّة
القطريون أثبتوا قدرتهم على خوض التحديات على خطى أجدادهم

الدوحة- أشرف مصطفى:
تواصلت أمس فعاليات «موسم الندوات 2023»، بحضور سعادة الشَّيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني وزير الثَّقافة، حيث استضاف معهد الدوحة للدراسات سعادة الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية للحديث عن مونديال قطر 2022، في ندوة حملت اسم «الإرث الثقافي لكأس العالم»، وقد شهدت الندوة حضور السيد عبدالله غانم البنعلي المهندي رئيس التحرير، بالإضافة إلى نخبة من الإعلاميين والمثقفين.
وفي بداية الندوة أكد سعادة الدكتور حمد الكواري على أن «مونديال قطر» شكّل نقطة تحوّل بالنسبة إليه، أدرك خلالها أهمية كرة القدم ليس فقط باعتبارها مجرّد رياضة بل لارتباط الملايين من البشر في العالم بها، ما يجعل لها أبعادًا ثقافيّة واجتماعيّة تتخطّى الرياضة. لافتًا إلى أن هذا بالتأكيد حال كثير من المثقفين حول العالم. وأثنى سعادته على اختيار موضوع المونديال ليكون ضمن فعاليات الدورة الثانية من «موسم الندوات»، مؤكدًا أن هذا الأمر يعكس مدى فهم القائمين على الفعالية للظّواهر الثقافية التي تحتاج إلى دراسة واستفادة، حيث يعدّ موضوع «الإرث الثقافي للمونديال» من الموضوعات المهمة التي تندرج ضمن قضايا السّاعة الفكريّة والثقافيّة. فقد ارتبط المونديال بالأبعاد الثقافيّة وهو ما أشار إليه حضرة صاحب السموّ الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدّى، والذي حدد وبشكل واضح الموقف الثقافي لدولة قطر من هذا التواجد الدولي وبيّن الهدف منه، بالإضافة إلى مهمّته الأساسية وهي الرياضة، وهو أن يكون المونديال مناسبة لتأكيد التفاعل والاحترام المتبادل بين الثقافات، ولم يكن هذا القول مجرّد شعار لفظي ولكنّه تجسّم على أرض الواقع ليكون ممارسة ناجحة أثبتت أنّ دولة قطر لن تتخلى عن قيمها الثقافية وستتدخل لمنع التجاوز لهذه القيم عندما يحاول البعض ذلك. وقد قدمت قطر ثقافتها وقيمها على امتداد فترة المونديال، فأتاحت للزوار من الثقافات المختلفة التعرف على ديننا وثقافتنا وقيمنا الاجتماعية وتأكيد مبدأ الاحترام المتبادل بين الثقافات.
تفعيل المكتسبات
وشدد د. الكواري على ضرورة تفعيل مكتسبات نجاح المونديال على المستوى الثقافي حتّى لا تحُولَ فرحة النجاح دونَ مواصلة العمل. ويعني ذلك أن نفكّر فيما بعد المونديال حتّى نبتعد عن ذلك الأسلوب في التفكير الذي يبقى مفتخرًا بأمجاد الماضي دون أن ينفع حاضره ولا يفكّر في مستقبله. وإذا كان من حقّنا وحقّ الأجيال العربيّة الفخر، فإنّ هذا الافتخار لن ينفعنا في شيءٍ إن لم نستخدم نتائجه الإيجابيّة في إحداث تحوّلات حضاريّة. لننظر في محصّلة هذا الإرث الثقافي الكبير الذي حصدناهُ من أثَر ما زرعنا، ولا نرمي به في متحف الذّاكرة. مشيرًا إلى أن أوّل ما يتجلّى من أثر هذا النجاح الذي أبهر العالم هو إثبات القطريين لقدرتهم على خوض التحديات وكسبها على منوال ما قام به الأجداد حتّى صارت استجابتهم لما يعترضهم منها جزءًا من شخصيّتهم الوطنيّة، وهو ما سيبقى علامة فارقة لأجيال من القطريين في العقود القادمة. موضحًا أن هذا النجاح لم يقتصر على تنمية دافعيّة العمل والإتقان لدى أبناء المجتمع القطري فحسب، بل إنّهُ أعاد التفاؤل والأمل إلى العالم العربي في مرحلة تحتاج فيها الأجيال العربيّة إلى نماذج مُلهمة للفعل الحضاري، حيث حرّك المونديال «الذاكرة الجماعيّة» للشّعوب، واستعاد العرب والمسلمون أمجاد الحضارة العربيّة الإسلاميّة حين كنّا نقود ركب الحضارة ونؤثّر في المجتمعات الأخرى، ونتصدّر «النموذج» الحضاري للتقدّم.

الدبلوماسيّة الثقافيّة
وأضاف سعادته قائلًا: من النتائج الرّئيسيّة للمونديال استعادة الدور الأساسي الذي تلعبه الثقافة في تقديم الصّورة المثلى لدولة قطر، التي أعادت «الثقافة» إلى قلب الاهتمامات الدّوليّة، باعتبارها محدد مهمّ لطبيعة العلاقات الدوليّة، فقد كانت الحملة التي تعرّضت لها قُبيل انطلاق كأس العالم «حملة ثقافيّة» بالدرجة الأولى، وكان التعاطي معها ثقافيًّا. هناك من كان يجرُّ نحو «صدام الحضارات» وبينما كانت المباريات تدار على أرضيّة الملاعب العجيبة والسّاحرة، كانت مباراة كبرى تُدار على أرضيّة الثقافة العالميّة بين دعاة الصّدام ودُعاة الحوار والتعارف. حيث احتوى المونديال على تعبيرات ورسائل ثقافيّة منحت البطولة طابعًا استثنائيّا، وأكّدت على قيمة القوّة الناعمة حيثُ أثّرت مختلف تلك التعبيرات الثقافيّة على ملايين المُشاهدين في العالم. وهذا ما يؤكّد من جديد فاعليّة الدبلوماسيّة الثقافيّة التي تُعدّ الدبلوماسيّة الرياضيّة جزءًا منها، إذ تحتاج الدول دائمًا إلى وسائل ثقافيّة لترويج ثقافتها وتعزيز حضورها في العالم، وقد كان المونديال اختبارًا حقيقيًّا لجدوى هذه الدبلوماسيّة التي تتطلّب اليوم مزيدًا من العمل من أجل المحافظة على مكتسباتها والاستمرار في تنويع أدواتها.
التواصل الحضاري
وفيما يخص التواصل الحضاري خلال المونديال قال: احتضنت قطر على امتداد شهر كامل جمهورًا من مختلف دول العالم، ومن ثقافات ولغات ومعتقدات وأعراق متنوّعة، وكان التحدّي الأكبر يتلخّص في وضع قيمنا وثقافتنا على محكّ التواصل مع هذا التنوّع الإنساني، وقد كسب المجتمع القطري رهان التواصل الحضاري بجدارةٍ أدّت إلى إحداث «صدمة عند الغرب»، الذي اعتبر بعض المناوئين فيه للعرب والمسلمين بأنّ مدوّنتنا القيميّة عاجزة عن قبول الثقافات الأخرى، وبأنّ الإنسان العربي عاجز عن الإسهام في الحضارة الإنسانيّة. كما قدّمت دولة قطر من خلال المونديال درسًا في مفهوم التبادل الثقافي ألا وهو احترام الخصوصيّات الثقافيّة وليس الإذعان إلى فرض تعبيرات ثقافيّة تتعارض مع سلّم القيم العربيّة الإسلاميّة. هذه القيم التي كانت جزءًا أساسيًّا من التعبيرات الثقافيّة للمونديال، وحدّدت منذ حفل افتتاح المونديال «بوصلة» جميع فعاليّاته. ولم تكن البوصلة مستمدّة من مرجعيات غريبة عن المجتمع القطري بل أقيمت على مفهوم «التعارف» القرآني من خلال الفقرة التي جمعت بين الشاب القطريّ غانم المفتاح والممثّل الأمريكي مورغان فريمان. وبيّنت رمزيّة الحفل بجميع مكوّناته اعتزاز القطريين بانتمائهم إلى الحضارة العربيّة الإسلاميّة وافتخارهم بقيمها السّمحاء، فلأوّل مرّة في تاريخ المونديال يتلى القرآن الكريم على أرض عربيّة ومسلمة في حفل تابعه المليارات من البشر، ليدركوا رسالة دولة قطر إلى العالم بضرورة الالتزام بأصل الاجتماع الإنساني القائم على الحوار والاحترام والتعارف وليسَ الصّدام والكراهيّة والتفاضل. فلم يمنع المونديال من تقديم قطر ل «نمط ثقافي» جديد في الحوار بين الثقافات وفي الاعتزاز بالهويّة الوطنيّة دون الانغلاق، مثلما ساعد المونديال على تنشيط الصّناعات الإبداعيّة ومنها ما يتعلّق بالصّناعات الحرفيّة، فقد تزيّنت الجماهير القادمة من كلّ أنحاء العالم بالعقال والغترة، وأضحى للبشت القطري رواج كبيرٌ ورمزيّة بعد أن ارتداهُ قائد الفريق الأرجنتيني في مراسم تسلّم كأس البطولة. ومن مكاسب المونديال أنّه لم يحجب القضايا العادلة التي تؤمن بها الجماهير في كلّ مكان، لأنّ الرياضة ليست مجرّدة من القيم الإنسانيّة، والشّعوب لا تهتف لمنتخباتها فقط وإنّما تصدح بموقفها الإنساني من بعض القضايا الإنسانيّة، لذلك كانت القضيّة الفلسطينيّة حاضرة في وجدان الجماهير وفي هتافاتهم وفي تعبيرهم عن مساندتها برفع العلم الفلسطيني في كلّ مكان، في إشارة إلى أنّ الضّمير العالمي ما يزالُ حيًّا.
ما بعد المونديال
وفي ختام الندوة أوصى سعادة الدكتور حمد الكواري بأهمية الحفاظ على هذه المكتسبات، والانتقال من نجاح إلى آخر. معربًا عن تطلعه في أن تكون هناك خطة متكاملة للتعامل مع مرحلة ما بعد المونديال والبناء على ما حققناه من نجاح وتحويل البنية التحتيّة التي بنيناها من فنادق وملاعب وأسواق ومراكز ثقافية وطرق إلى فضاءات لحركة ثقافية واقتصادية ورياضية تجعل من بلدنا مثالًا يُحتذى في نجاح متواصل وليس (فيلا أبيض) كما حدث في بعض الدول التي استضافت فعاليات عالمية ناجحة ولكنها لم تواصل المسيرة.
تضمنت حزمة من المحاور الهامة .. رئيس التحرير:الندوة تستعرض مسيرة النجاح
أكد السيد عبدالله غانم البنعلي المهندي رئيس التحرير أن ندوة «الإرث الثقافي لكأس العالم»، والتي قدمها سعادة الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، جاءت لتكمل سلسلة الندوات المتميزة والقادرة على إحداث حراك ثقافي حقيقي ومميز، بطرحها لموضوع غاية في الأهمية نظرًا لكونه يتضمن حزمة من المحاور التي من شأنها تحقيق استمرارية النجاح، وقال في هذا الصدد إن النجاح سهل، إلا أن مواصلة تحقيقه هو الأمر الذي يحتاج إلى جهد كبير، وعلى ذلك فقد رأى أن مناقشة مثل هذه الموضوعات أمر يمثل دافعًا لتحقيق استمرارية النجاح بالبناء على قاعدة قوامها التأطير والتنظير بطريقة علمية بما يساهم في وضع الخطط المستقبلية وتنفيذها بشكل سليم ومبني على استراتيجية واضحة.