كتاب الراية

تأملات عابرة.. الدّندنات الصَّباحيّة

هكذا تستمرّ الدائرة .. تنجذب ثمّ تتقرّب ثمّ تعتادُ ثمّ ترحلُ

«تنجذبُ ثمَّ تتقرّبُ ثمّ تعتادُ ثمّ ترحلُ، كلّنَا «جذّابونَ» في البدايةِ كتجربةٍ مُثيرةٍ، كلغزٍ يريدُ الجميعُ أنْ يُحاوِل فهمَهُ، فالإنسانُ كائنٌ فضوليٌّ ينجذبُ بطبعِه لكلِّ شيء لا يفهمُهُ، وهذا في حقيقة الأمر ما جذبكَ إليَّ، وما أن تقتربَ منِّي لفترةٍ حتَّى تزيحَ الغموضَ الذّي يحومُ حولي، وتكتشف الجانبَ الذّي لا يُرى إلَّا عن قرب، تلاحظ التّعب، تفهم التّصرفات، تعتادُ كلّ الأشياءِ التّي كانت مثيرة حينَ كنتَ تراهَا من بعيدٍ.. ثمّ أصبح ذلك عاديًّا، ومملًا بطريقة متكرّرة .. وهكذا تستمرّ الدائرة، تنجذب ثمّ تتقرّب ثمّ تعتادُ ثمّ ترحلُ».
بردت القهوة الأولى، الثّانية، فالثّالثة، وأنا أنتظر …
بائع الخبزِ طرقَ الباب، الصوت يشبه طرقتك، وأنا أنتظر … بائعة هوى مرّت، دون أن يلامسني هواها، أفتقدُ نسيمكِ..وأنا أنتظر ..
كلّ الدّندنات الصّباحيّة لفيروز… وترانيم الكنائس القريبة.. مرّت الفصول خريفًا خريفًا أقع كالأوراق، ليس على الأرض، بل عليكِ … وأنا أنتظر… كلّ أغاني الطّفولة على سبايستون انتهت، قالوا سنعود بعد قليل، ذهبت ولم تعد… مثلك تمامًا..
وأنا أنتظر… أعياد الميلاد، تغيّرت الأرقام، شاخت الملامح… على رصيف شارع خوان كارلوس أجلس حيث رحلتِ …
غادر خوان كارلوس أيضًا… وأنا أنتظر ..
كانتْ تقطعُ علاقتها بي وتقسم أنّها سترحلُ ولن تعودَ، ثمّ تمضي الأيّام اللّاحقة وهي تطلّ عليّ كلّ ساعةٍ برسالةٍ تُخبرني فيها أنّها لن تعودَ مهمَا حاولتُ، ثمّ أدركتُ فِي النّهاية أنّه حين تريدُ امرأةٌ بإصرارٍ أن ترحلَ، هي في الحقيقةِ تريدكَ بشدّة أن تتمسّكَ بها …
خيبتي الكبرى كانت أنّني ظننتُ أنّ كثرة عدد النّاس من حولي سيملأ كلّ الثّقوب والفراغات الرماديّة في أيّامي، إلَّا أنّني للحظة واحدة، حين أفكرّ ولو في شخص واحدٍ أستطيع أن أحدّثه عن شيء واحد يحترق داخلي و يشتدّ… لا أجده …
لقد عشتُ وحيدًا رغم كلّ شيء… جاءت أوقاتٌ صَعبةٌ، لم أهْربْ أبدًا، تشبّثتُ بمُقاوَمتِي دومًا.. حين كانَ يجبُ أن أنسَحِبَ رفضتُ الاستسلامَ، حتّى حين كنتُ في أضعفِ حالاتِي، حينَ كنتُ مُنهكًا ومهزومًا دون أن أعلنَ ذلك للعالمِ، آمنتُ باستمراريّةِ المواجهة تلكَ اللّحظة.
إلا أنّني بعدَ ذلكَ وإلى اليومِ، صرتُ أهربُ، أهرب مسرعًا.. أجرِي دونَ توقّفٍ …كلّ طاقتِي في الهروبِ، ولا قوّة للمواجهةِ…
ما أريدُكَ أنْ تفهمهُ أنَّ الإنسان لا ينتظرُ المقابلَ لقاءَ ما يُعطِي من الحبِّ أو الاهتمامِ، الدعمِ النفسيّ، اللّطفِ والودِّ، تجاوزِ الأخطاءِ والغفران، سدّ احتياجكَ الشّديد للرّفقةِ، الاعتناء بكَ، الإنسانُ لا يطلبُ مقابلًا لقاء الأشياء التِّي يُقدّمهَا، لكنّه ينتظرُ التقديرَ، ينتظرُ أن تُلاحظَ الفرقَ الذّي يحدثهُ وجوده بجانبكَ، أنّك تقدّر كلّ ما فعلهُ، ذلك هو وَقوده للاستمرارِ…
من لا يقدّرُ الأشياء التي تقدّمهَا هو غالبًا لا يستحقّك.
في المرّات الأولَى كنتُ أنفعلُ، أغضبُ بشدةٍ، أنتفضُ، أصرخُ، أحترقُ… ثمّ أصبحتُ أقلّ انفعالًا، أشاهدُ من بعيدٍ وأكتمُ كلّ شيءٍ حدّ الامتلاءِ… ثمّ فضتُ، مرارًا…
في النّهاية صرتُ أكثرَ اتّزانًا، أقلّ اهتمامًا، أشدّ برودًا، رتّبتُ جميع الأولياتِ، لا شيء يدعو إلى الاحتراقِ، فليحترقْ العالمُ وأنا في سلامٍ.

 

 

 

 

العلامات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X