وقفات قانونية.. موانع المسؤولية.. حالة الضرورة
لا يُسأل جنائيًا كل من ارتكب فعلًا دفعته إليه ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم

في بعضِ الأحيانِ قد يجدُ الإنسانُ نفسَه غير قادر على الحفاظ على حق أو مصلحة مُعينة ذات أهمية كبيرة، وجديرة بالحفاظ عليها، إلا إذا ارتكب جريمة: على سبيل المثال، قد لا يجد طبيب أنه لا سبيل للحفاظ على حياة الأم إلا بالتضحية بالجنين، والشخص الذي يشب في منزله حريق هائل أثناء استحمامه، قد لا يجد سبيلًا للنجاة بحياته سوى أن يقفزَ من شرفة المنزل إلى الشارع، قبل أن يتمكنَ من ارتداء ملابسه، ومن شبت النيران في سيارته فجأة ولم يجد سوى طفاية حريق بسيارة لا يوجد بها أحد، فقام بكسر الشباك وانتزاع طفاية الحريق منها لإخماد النيران المُشتعلة في سيارته. في الأمثلة السابقة ارتكبت عدة جرائم يُعاقب عليها القانون الجنائي (إجهاض – فعل فاضح علني – إتلاف منقولات وسرقة) والتساؤل المطروح، هل يُعاقب القانون مُرتكبي تلك الجرائم؟ أم أنه بالنظر للظروف التي ارتكبت فيها يُعفون من العقاب؟
أجاب المُشرِّعُ القطري عن هذا التساؤل صراحة عندما نصّ في المادة (55) من قانون العقوبات على أنه: « لا يُسأل جنائيًا كلُّ من :2- ارتكب فعلًا دفعته إلى ارتكابه ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على وَشْك الوقوع يُصيب النفس أو المال، إذا لم يكن لإرادته دخل في حلوله. ويشترط في هاتَين الحالتَين ألا يكون في استطاعة مُرتكب الفعل دفع الخطر بوسيلة أخرى، وأن يكون الفعل الذي ارتكبه بالقدر الضروري لدفع الخطر ومُتناسبًا معه». ومؤدى النص السابق انتفاء المسؤولية الجنائية في حالة الضرورة إذا توافرت الشروط التالية:
1-أن يكون هناك خطر يُهدد النفس أو المال:
وبذلك ساوى المُشرِّع القطري بين الخطر المُهدد للنفس أو المُهدد للمال. كما يستوي- في حالة الخطر المُهدد للنفس- أن يكون مُهددًا للشخص في حياته، أو في سلامة جسمه، أو حريته أو شرفه واعتباره. فمن يفقد ملابسه أثناء الاستحمام في البحر يمكن أن يستولي على ملابس مملوكة لغيره لستر عوراته استنادًا إلى حالة الضرورة. كما يستوي أن يكونَ المال المُهدد بالخطر عقارًا أو منقولًا. وأخيرًا يستوي أن يكونَ الخطر مُهددًا لنفس ومال المُتهم أو لنفس ومال الغير.
2- أن يكونَ الخطر جسيمًا:
لم يُحدد المُشرِّعُ القطري الضابط الذي يُستعان به لتحديد جسامة الخطر، ولذا فإن المرجع في ذلك يكون لقاضي محكمة الموضوع، في ضوء الظروف التي أحاطت بالمُتهم أثناء ارتكابه الجريمة، مع الأخذ في الاعتبار ظروف المُتهم. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الخطر يكون جسيمًا في حالة ما إذا كان احتمال الضرر الناتج عنه غير قابل للإصلاح على احتمال قابليته له.
3- يتعين أن يكونَ الخطر حالًا:
يقصد بهذا الشرط أن يكونَ الخطر على وشْك الوقوع، أو بدأ لكنه لم ينتهِ. أما إذا كان الخطر مُستقبلًا، أو أنه وقع فعلًا وانتهى، فإنه لا محل في هذه الحالة للاحتجاج بحالة الضرورة. ويستوي أن يكونَ مصدر الخطر هو الإنسان، أو اعتداء حيوان، أو ظاهرة طبيعية كالفيضانات والزلازل والبراكين.
4- ألا تكون لإرادة الجاني دخل في حدوث الخطر:
يقصد بهذا الشرط ألا يكونَ الخطر نتيجة خطأ إرادي سابق من مُرتكب الجريمة. ويفرق البعض بين ما إذا كان الشخص قد تسبب في حلول الخطر بفعل عمدي أو كان نتيجة إهماله أو عدم احتياطه: فإذا كان المُتهم قد تسبب في حلول الخطر بفعل عمدي، فلا يجوز له أن يحتجّ بحالة الضرورة، مثال ذلك، من ينضم بمحض إرادته إلى إحدى العصابات ثم يرتكب جريمة معهم، ويُحاول الخلاص من عقابها استنادًا إلى أنه ارتكبها تحت تهديد زملائه من أفراد العصابة له، مثل هذا الشخص لا يجوز له الاستناد إلى حالة الضرورة لدفع المسؤوليَّة الجنائية الناشئة عن الجريمة التي ارتكبها. أما إذا نشأ الخطر نتيجة إهمال المُتهم أو عدم احتياطه أو رعونته، فيمكن أن يحتج بحالة الضرورة لنفي المسؤولية الجنائية عنه، مثال ذلك، من يتسبب برعونته أو عدم احتياطه في حريق منزل، ثم يرتكب فعلًا يُعد جريمة، للنجاة بنفسه من خطر الحريق.
5- ألا يكونَ في مقدرة مُرتكب الجريمة تجنب الخطر بوسيلة أخرى:
فيجب أن تكونَ الجريمة التي ارتكبها المُتهم هي الوسيلة الوحيدة التي كانت مُتاحةً له لوقاية نفسه أو ماله، أو نفس غيره وماله من الخطر، فذلك هو الذي يجعل من حالة الاضطرار إلى الجريمة مُتوافرة لدى المُتهم، وبالتالي يُبرر انتفاء المسؤولية الجنائية عنه. أما إذا ثبت لدى المحكمة، ومن خلال الظروف المُحيطة بالواقعة، أنه كان بإمكانه تفادي ارتكاب الجريمة، إذا لجأ إلى وسيلة أخرى لا تُعد جريمة، ففي هذه الحالة لا تنتفي المسؤولية عن الجريمة التي وقعت ويتحمل بالتالي تبعاتها.
6- التناسب بين الخطر وفعل الضرورة:
وهذا الشرط مُكمل للشرط السابق؛ إذ يستلزم قدرًا من التناسب بين الخطر وفعل الضرورة، أي أن يكون فعل الضرورة بالقدر اللازم لدفع الخطر ومُتناسبًا معه، فالتناسب مثلًا يتحقق إذا كانت التضحية بمال من الأموال في سبيل الحفاظ على حياة إنسان. والخلاصة أنه لا يقبل من المُتهم الاحتجاج بحالة الضرورة إذا كان في استطاعته التخلص من الخطر بفعل أقل جسامة من الجريمة التي ارتكبها.
الشريك المؤسس لمكتب شرق
وعضو لجنة قبول المحامين