المنتدى

كشف زيف مقولة عنصرية

ديموقراطية الغرب تراجعت وغدت ألعوبة ووسيلة وتمثيلية تستعملها بدهاء أقلية غربية

بقلم/ د. علي محمد فخرو:

تصريحان لافتان للنظر: فعندما انتهت ولاية الرئيس الأمريكي الشهير السابق، الجنرال إيزنهاور -حوالي منتصف القرن الماضي- اعترف للأمريكيين، باستسلامِ المحبِط المملوء باليأس، بأن الذي يحكم أمريكا في الواقع ليس رؤساء الدولة، وإنما يحكمها، ثالوث الأمن والاستخبارات أولًا، والاقتصاد والمال، ثانيًا، والإعلام ثالثًا.

فيما بينهم يكوّن الثلاثة الدولة العميقة التي تدير وتهيمن، وتعاقب وتجزي، وتراقب كل حركة. وجاء الآن المُناضل الاشتراكي البريطاني جيرمي كوربن، الذي كان مرشحًا شبه مؤكد لأن يكون رئيس وزراء بريطانيا، لولا أن الدولة العميقة اعترضت عليه وشوهت سمعته واستعملت أموالها ونفوذها المحلي والدولي لإسقاط كل آماله في رئاسة حزب العمال البريطاني أولًا، ومن ثم في أن يصبح رئيس وزراء. نشر هذا الاعتراف اليائس الحزين من قبله على شبكات التواصل الاجتماعي، وصفًا واحتجاجًا وقنوطًا، للقدرات التسلطية التي تملكها الدولة العميقة في بريطانيا ولهيمنتها الهائلة على الحياة السياسية هناك. في دولتين عريقتين إلى أبعد الحدود -في تبنّي النظام الديموقراطي وممارسته عبر مئات السنين- يكشف لنا رئيسُ دولة، وقائدٌ أساسي في حزب تاريخي متجذر، زيفَ وهشاشة ما وراء أقنعة النظاميْن الديموقراطييْن في كلا البلدين.

هذا الكشف، الذي من المؤكد يخاف الحديث عنه الألوف من قادة السياسة في كلا البلدين، يجب أن يقود إلى مناقشة الأحجية التاريخية التالية: هل هناك فرق بين الدولة العميقة التي تلبس رداء الديموقراطية المظهرية -من انتخابات، إلى برلمانات، إلى استقلال لسلطاتها الثلاث، وإلى رأي عام مستنير مستقل، إلى أحزاب تخدم مصالح الشعوب ولا غير الشعوب إلخ.. بينما هي في الواقع تدير البلاد باستبداد ورشاوى وشراء ذمم سياسية وإعلامية، وذلك لخدمة مصالح أقلية متحكمة ومتنفذة، هل هناك فرق بينها وبين ما ظل الغرب طيلة القرون يردده بشأن الشرق؟ وهو أن الشرق قد حكمه طيلة تاريخه السلطان المستبد، سواء باسم القبيلة أو العائلة أو العساكر أو جهات خارجية، ويضاف بأن الشرق وحده لديه قابلية للخضوع وللتعايش مع الاستبداد.

ما الفرق بين استعمال أنواع الهيمنة والتسلط على كل شيء الذي ميز السلطان المستبد في الشرق، وبين استعمال كل أنواع الهيمنة والتسلط على كل شيء الذي تمارسه الدولة العميقة في الغرب من وراء حجاب الديموقراطية، كما وصفه أيزنهاور وكوربن؟

يومًا بعد يوم يتبين أن الاستبداد السلطاني الشرقي هو في الحقيقة توأم مماثل لاستبداد الدولة العميقة الغربية، ويوميًا تصدر الكتب والمقالات، ويصرح ذوو الضمائر، عن أن ديموقراطية الغرب قد تراجعت وغدت ألعوبة ووسيلة وتمثيلية تستعملها بدهاء أقلية غربية للسيطرة على وعي وعقول الشعوب من أجل إقناعها بأن امتيازات تلك الأقلية ومكانتها وسلطاتها وشتى أشكال جشعها وسرقاتها هي شرعية حصلت عليها بوسائل ديموقراطية قانونية تحكمها ممارسات الأخذ والعطاء والتراضي ومتطلبات الحقوق الطبيعية، بل وأحيانًا حتى الأقدار الإلهية، ومن ثم فهي امتيازات وممارسات شرعية.

في كتابه «خارج الدمار» يصف جورج مونبيوت الساحة السياسية في أمريكا بأن جملة النظام السياسي الممارس فيها معروض للبيع، وذلك بعد أن يعرض أشكالًا من الدعم المالي والإعلامي الذي تتبرع به الشركات والبنوك والأفراد ووسائل الإعلام لإنجاح أعضاء الكونجرس الأمريكي مقابل خدمات يلتزمون بتقديمها من خلال نوع تصويتهم عند اتخاذ قرارات الكونجرس. وبصوت عال يؤكد أن طبقة الأغنياء والنفوذ في أمريكا وإنجلترا، المعنيّ بدراستهم، هي التي تحكم وتتحكم، وأن ما عداها هم ليسوا أكثر من شهود زور.

لسنا معنيين هنا بأوضاع الحكم في مجتمعات الغرب، فهو موضوع بالغ التعقيد ويعني في الدرجة الأولى شعوبَه. ما يهمنا هو أنه آن أوان كشف زيف ما ظل يردده الغرب على لسان أحد شعرائه عبر السنين بأن «الشرق شرق والغرب غرب»، مشيرًا إلى قابليتنا للاستبداد وقابليتهم للحرية، فقد عرّت الدولة العميقة في مجتمعات الغرب زيف تلك المقولة العنصرية المتكبرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X