غريب القرآن..
«قد تكون بعض الألفاظ في القرآن الكريم غريبة على بعض القارئين لكن عند قوم لا تُعد كذلك، وتختلف من عصر لآخر، ودرجة الغرابة هنا نسبية، وغرائب القرآن ليست مُنكرة أو نافِرة أو شاذة، فالقرآن مُنزّهٌ عن كل هذا، وإنما اللفظة الغريبة هاهنا هي التي تكون حسنة مُستغربَة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس».
(بَرَكَ):
قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ). (الأعراف/ ٩٦).
أصل البَرْك صدر البعير وإن استعمل في غيره، وبَرَكَ البعير: ألقى بَرْكَه، واعتبر منه معنى اللزوم، فقيل: ابْتَرَكُوا في الحرب، أي: ثبتوا ولازموا موضع الحرب، وابْتَرَكَتِ الدابة: وقفت وقوفًا كالبروك، وسمّي محبس الماء بِرْكَة، والبَرَكَةُ: ثبوت الخير الإلهي في الشيء.
والمُبَارَك: ما فيه ذلك الخير، على ذلك: (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) (الأنبياء/ ٥٠) تنبيهًا على ما يفيض عليه من الخيرات الإلهية، وقال: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) (الأنعام/ ١٥٥)، وقوله تعالى: (وَجَعَلَنِي مُبارَكًا) (مريم/ ٣١) أي: موضع الخيرات الإلهية، وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (الدخان/ ٣)، (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا) (المؤمنون/ ٢٩) أي: حيث يوجد الخير الإلهي، وقوله تعالى: (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا) (ق/ ٩) فبركة ماء السماء هي ما نبّه عليه بقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ) (الزمر/ ٢١)، وبقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) (المؤمنون/ ١٨)، ولمّا كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يُحصى ولا يحصر، فقد قيل لكلّ ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مُبَارَكٌ، وفيه بركة، وإلى هذه الزيادة أشير بما روي أنه: «لا ينقص مال من صدقة» لا إلى النقصان المحسوس حسب ما قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك، فقال: بيني وبينك الميزان.
وقوله تعالى: (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجًا) (الفرقان/ ٦١) فتنبيه على ما يفيضه علينا من نعمه بواسطة هذه البروج والنيّرات المذكورة في هذه الآية، وكلّ موضع ذكر فيه لفظ «تبارك» فهو تنبيه على اختصاصه تعالى بالخيرات المذكورة مع ذكر «تبارك». وقوله تعالى: (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (المؤمنون/ ١٤)، (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) (الفرقان/ ١)، (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ) (الفرقان/ ١٠)، (فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (غافر/ ٦٤)، (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك/ ١) . كلّ ذلك تنبيه على اختصاصه تعالى بالخيرات المذكورة مع ذكر «تبارك» .
الأمثال في كلام الرسول
عَنْ قَبِيصَةَ بنِ الْمُخَارِقِ وَزُهَيْرِ بنِ عَمْرٍو قَالَا: لَمَّا نَزَلَت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) انْطَلَقَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ، فَعَلَا أَعْلَاهَا حَجَرًا، ثُمَّ نَادَى: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاهْ! إِنِّي نَذِيرٌ؛ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ: يَا صَبَاحَاهْ.
والرَّضْمَة صُخُور عِظَام دُون الْهِضَاب. «يَا صَبَاحَاهُ» كَلِمَة تقال عِنْد وُقُوع أَمْر عَظِيم. وقد بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى امتثال أمر ربه بدعوة أهله وعشيرته، والبداءة بهم قبل غيرهم.
وهذا بيان لشفقة النبي صلى الله عليه وسلم على عشيرته وقومه، وحرصه على نجاتهم من عذاب الله تعالى وعقوبته، ولقد ضرب لهم المثل بذلك،
وهذا أيضًا بيان لفضل الدعوة إلى الله عز وجل وأنها من أفضل القربات إليه، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم»، وهي وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخواص أتباعهم، فعلى المُسلم أن يُعنى بذلك وأن يجتهدَ في الدعوة إلى الله على علم وبصيرة قدر وسْعِه وطاقتِه.