كتاب الراية

ضوء أخضر.. الإنجاز في العمل والاحتراق الوظيفي

ضغوط مزمنة في مكان العمل لم تتم إدارتها بشكل صحيح

يُعدّ الطبيبُ والمُعالج النفسي هربرت فرودنبرجر، أول من أجرى أبحاثًا عن الاحتراق الوظيفي (Burnout) في العام 1974، وعرّفه بأنه التكلفة المُرتفعة للإنجاز العالي، والتي تتمثل في حدوث «انقراض» أو «تقلص» للدافع أو الحافز الذي يُحرّكنا في الحياة أو يدفعنا للاستمرار في العمل وتحقيق التطور المهني، والذي يحدث بشكل خاص عندما تفشل جهود الشخص في تحقيق النتائج المرجوة.

وأوضحت وزارةُ الصحة العامة، بعض العلامات التي قد تظهر نتيجة الاحتراق الوظيفي والتعريف به، وذلك ضمن الحملة التوعوية للأسبوع الخليجي للصحة والسلامة المهنية 2023، مُشيرة إلى أن الاحتراق الوظيفي هو «متلازمة تحدث نتيجة ضغوط مُزمنة في مكان العمل لم تتم إدارتها أو التعامل معها بشكل صحيح»، وبيّنت الوزارةُ من خلال منصاتها الرقمية أن الاحتراق الوظيفي يظهر في علامات على شكل إرهاق والشعور بالسلبية تجاه العمل وانخفاض الكفاءة المهنية، وكذلك ضغوط الحياة العامة يمكنها أن تُسرّع من حدوث الاحتراق الوظيفي.

ويعتبر الاحتراق الوظيفي من الأمراض العصرية الشائعة، فقد أدرجته مُنظمة الصحة العالمية ضمن قائمة التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض «ICD»، بعد عام من توصيات خبراء الصحة العالميين، وجاء الاعتراف بهذه المُتلازمة عالميًا في عام 2022، الأمر الذي يمنح مُقدمي الرعاية الصحية وشركات التأمين فرصةً لمعرفة أعراض «الاحتراق» وعلاجه وتأمين تغطيته الصحية.

وتُعرّف مُنظمة الصحة العالمية الاحتراق الوظيفي على أنه إجهاد مُزمن في مكان العمل لم تتم إدارته بنجاح، ولتجنب الوصول إلى هذه المرحلة ينبغي الانفصال عن العمل ومشاكله بمجرد انتهاء ساعات العمل الرسمية، وأخذ قسط من الراحة الجسدية والنفسية في أوقات مُحددة يوميًا، للمُساهمة في استعادة النشاط وتجديد الدافعية للعمل.

وتُشير معظم الأبحاث والدراسات إلى أن الموظفين أصحاب الطموح العالي والميل للإنجاز هم الأكثر عرضة للاحتراق الوظيفي، لأنهم لا يشعرون بالرضا الوظيفي، ويميلون غالبًا إلى إرضاء جميع الأطراف، وبالتالي إهمال حياتهم الشخصية، ويؤدي ذلك بهم إلى التعرض لأكبر درجات الضغط والإرهاق الذهني والنفسي والجسدي.

وأحيانًا يجبر الموظف أو المسؤول على إنهاء مشروع في العمل، ويعكف على أدائه بجد وإخلاص، ولا ضير في هذا حتى وإن استغرق وقتًا طويلًا في سبيل تحقيق النجاح، لكن بعد إنجاز هذا المشروع يجب إعطاء مساحة للفكر والجسم والروح للراحة، ووقت للاسترخاء مع نهاية كل أسبوع من العمل.

وبذلك يتجدد النشاط ويتجدد الطموح في الإنجاز بالعمل، فأحيانًا ضغوط العمل والإجهاد تُدمّر حياة الموظف الخاصة، وتجعله يتصارع مع نفسه عندما يتعرض للاحتراق الوظيفي ولا يجد السبيل للنجاة منه.

التوازن هو المطلوب بين العمل والراحة حتى في العبادة، لم يرهق الله عباده بالعبادة المُتواصلة، بل أعطى المُسلم مساحةً للعمل والراحة والعبادة، لعلمه -عزّ وجلّ- بعدم استطاعة الإنسان التحمل في شأن واحد ما لم يعط مساحة كبيرة لممارسة كثير من الأشياء، فالعبادة والعمل والراحة ومُمارسة الأنشطة والهوايات المُحببة تدفع الموظف أو المسؤول إلى أن يكونَ إنسانًا طبيعيًا بعيدًا عن الاحتراق الوظيفي.

وفي اعتقادي أن جزءًا كبيرًا من المسؤولية يُلقى على كاهل الرؤساء لتجنب الاحتراق الوظيفي في العمل، فإن رئيس العمل عليه واجب مُساعدة مرؤوسيه لتجنب التعرض للاحتراق الوظيفي، من خلال التحفيز المُستمر للموظفين بنوعيه المادي والمعنوي، وأيضًا من خلال استخدام استراتيجيات التدوير الوظيفي، لإتاحة المجال للموظف للتغيير والخروج عن الروتين، وبتمكينه من اكتساب خبرات جديدة في العمل، ومن خلال إعطاء الموظف شعورًا بأهميته وقيمة عمله وضخ دماء جديدة بالدوائر، هذا من شأنه رفع مستوى الأداء والرضا الوظيفي.

ومن الأمور المُهمة أيضًا الاهتمام بالصحة المزاجية للموظف، وتوفير الرعاية النفسية له بشكل دوري، ومُساعدته على إعادة اكتشاف نفسه وقدراته الحقيقية وشغفه بالحياة، وتحقيق توازن الحياة الاجتماعية والترفيهية والعملية لديه، فضلًا عن تفعيل أدوار المُختصين والأطباء النفسيين في مقرات العمل، وتوفير الدعم المعرفي السلوكي والعلاج الدوائي لمن يُعاني من اضطرابات المزاج.

ويمكن تجنّب هذه الأمراض العضوية والاضطرابات النفسية التي تُداهم الموظفين، من خلال الاعتراف بالمُشكلة ومعرفة الضغوط التي يتعرض لها الموظف، سواء كانت داخل أو خارج مُحيط عمله، ومن ثم خلق التوازن بين الجهد المبذول من الموظف، والمردود الذي يحصل عليه في المُقابل لاستعادة التوازن الداخلي للموظف.

والله ولي التوفيق،،،

 

أستاذ الهيدروجيولوجيا والبيئة بجامعة قطر

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X