جُلْطة.. نحن قوم لا نمرض .. وإذا مرضنا فهي بسبب عين حقودة أو حسودة
كنت أعتقد أنني الأفضل لعدم شكواي من علة مرضية
في كل سفرة أفضل التسكع عن الفحص الطبي الشامل
نحن بشر ننشد الكمال.. لكن علينا أن نؤمن بالعلل ونتعلم منها
لدينا إيجابيات وسلبيات.. حسنات وسيئات.. أصحاء ومرضى
شعرت بالصدمة حينما قال لي الطبيب: أنت مصاب بجُلْطة قلبية
مجتمعنا يعتقد أن كل ناصح للفرد هو فاضح أو حسود
كانت ليلة ليست ككل الليالي، كانت بمثابة الصدمة لدرجة أن قلبي الصغير لم يتحملها !
قبل هذه الليلة كنت أعتقد أنني الأفضل من بني جنسي لعدم شكواي من علة مرضية.. هكذا كنت أتصور ! حالي كحال مُجتمعي الذي أعيش فيه يعتقد اعتقادًا جازمًا ولا أعرف من أين له هذه الثقة المُفرطة بأنه الأكمل اجتماعيًا، يعتقد أنه أفضل شعوب العالم .. مُجتمع مثالي مُنزّه عن المثالب ! هل لأنه يشرب الكرك حتى لو كانت درجة الحرارة تقارب درجة غليان البركان ! من يعلم ؟
كنت أنكر الواقع وأرفض أي حديث عن وضعي الصحي رغم بلوغي من العمر عتيًا وأغضب من أي حديث في هذا الموضوع .. وفي كل سفرة إلى بانكوك أرفض عمل فحص طبي شامل، وأفضل التسكع بدلًا من ذلك مُرتديًا قميص سوبرمان، مَن مثلي وأنا أعيش في مُجتمع يكره الواقع.. يعيش في مثالية.. يحب المُكابرة، والويل كل الويل إذا فتح أحدهم فمه منتقدًا حالة اجتماعية أو سلوكية ! تخيل أنه قد يستصغرك لأنك تقود سيارة أقل من سيارته فخامة ! وهيبةً ! وجنسيةً !
التهمة ستكون حاضرة .. مَن أنت لكي تنتقد ؟ ألا تعرف من أنا وما هي منزلتي؟ نحن قوم لا نمرض وإذا مرضنا فهي بسبب عين حقودة وحسودة ! وكما نقول: (عين ما صلت على النبي) ! نعيش نحن الاثنين مثالية مصطنعة.
وقبل أي نقاش علمي يجب أن تبرز شهادة ميلادك حتى تكون أهلًا لهذا النقاش وإلا سيكون عقابك عسيرًا في أضعف الحالات سيرمقك بنظرة احتقار تحمل معنى خفيًا: (أنت من ولده) ! طبعًا هو يعرف أنك ابن والدك ولكن حفاظًا على مشاعرك عزيزي القارئ نكتفي بهذا القدر.
نعود إلى لحظة الحقيقة .. تلك الليلة المشؤومة .. إذ شعرت لحظتها بألم يعتصر قلبي وبدأ الألم يسري في جسدي بالكاد أتنفس وكأن الموت يناديني ! لأول مرة أجد نفسي ضعيفًا وأن حالي كحال أي إنسان مختلف عنا! اكتشفت أن الله خلقنا جميعًا سواسية نمر بحالات قوة وضعف، نشرب ونأكل ونستجيب لنداء الطبيعة مثل غيرنا ! ليس معنى أن ترتشف قهوة مختصة بـ 50 ريالًا أنك أفضل من غيرك لكي لا تلتزم بالطابور ! أو يحق لك أن تتسلط على مقيم في العمل لا يملك قوت يومه فقط لأن شهادة خبرتك هي شهادة ميلادك ! فإذا كنا نملك قوة النفط فهذا ليس بفضل منا ولكن هي أرزاق وغيرنا قد يملك ما هو أعظم.
كانت لحظة فارقة شعرت بها عندما قال لي الطبيب: (أنت مصاب بجُلْطة قلبية) ! كانت صدمة، جلست في حالة صمت غير مستوعب ! قلت الحمد لله تذكرت لحظتها حالة مُجتمعي لا شك أنه يعاني مثلي من عيوب وسلبيات و»بلاوي متلتلة !!» لكن الحديث عنها من المحرمات حتى لو كان هناك طبيب شخّص الحالة بوجود علة داخلية.
مجتمع يرى عيوب الناس ولا يرى عيوب نفسه، يعتقد أن كل ناصح للفرد هو فاضح، وكل غيور على المجتمع هو حسود، وكل مُنتمٍ للوطن هو انتهازي ! علتنا منَّا وفينا !
نحن مثل كل الشعوب لنا إيجابيات وسلبيات، لنا حسنات وسيئات، أصحاء ومرضى.
لنعلم أن الصح مقبول والخطأ مرفوض مهما كان هذا الشخص بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه .. لأن العدل هو أساس الملك.
وبين الصح والخطأ الذي نعتقد به هناك قناعات أخرى قد تكون هي الصحيحة.
إن التعايش مع الواقع بحلوه ومره هو أصل الحياة، والتعايش مع المرض بسيطًا كان أو قويًا هو قدر.
نحن بشر ننشد الكمال ولكن علينا أن نؤمن بالعلل وعلينا أن نتعلم من ذلك..
يجب أن نؤمن بأهمية نقد الذات وليس تضخيم الذات وأن المرجع لكل علة هو القانون لتحقيق العدالة الناجزة في الحياة.
الدرس الذي تعلمته من الجلطة القلبية أن أهتم بصحتي ولا أكتفي بالقول «الأعمار بيد الله» .. قد يكون كلامًا إنشائيًا حيث كلها أيام أعود لعاداتي القديمة ! وأسحب نفس السيجارة لكي أنسى الهموم. لكنْ «هموم عن هموم تفرق» وهمّ الوطن أصعب في الإصلاح لأنه متشعب الشرايين وليس الإصلاح بوضع دعامة أو اثنتين !
على المجتمع أن يعرف أين تكمن علته الداخلية لكي نستطيع أن نكتب وصفة طبية ناجعة، فنحن شعوب حية تؤثر وتتأثر تخطئ وتصيب .. باختصار لنتعايش مع الحياة بكل ما فيها، وأنا سوف أتعايش من قلبي التعبان وأردد أغنية (موجوع قلبي، والتعب بيّا من أباوع على روحي ينكسر قلبي عليّ).
في الختام أتقدم بالشكر والعرفان لمؤسسة حمد الطبية، وأخص بالذكر مستشفى القلب، كانوا بمثابة البلسم من أطباء وممرضين وعاملين، للأمانة صرح طبي بمستوى عالمي .. لذلك أقول هناك أمور أيجابية في مجتمعاتنا ولكن للأسف لا نكتشف ذلك إلا بعد فوات الأوان .. ونحن كمجتمعات خليجية نمتلك قلوبًا نقية وحتى في سنوات القحط قبل النفط لم نحسد المجتمعات الأخرى ولم نطالبهم بثرواتهم بل دعمناهم في نازلاتهم ونزواتهم، لذلك لنعُدْ كما كنا أصحاب قلوب محبة .. وسلامة قلوبكم.